القاهرة – كابول.. الخط الفاصل بين الحلم والمتاهة

موقع مصرنا الإخباري:

الحكاية في مسلسل “القاهرة – كابول” تأليف عبد الرحيم كمال، إخراج حسام علي، ليست حكاية واحدة، ولا هي تخص أصدقاء الطفولة الأربعة الذين تشتت بهم السبل، وأصبح كل واحد فيهم هو رمز في حد ذاته، يختصر شطراً في مجتمعنا: المخرج الراصد لقضايا الإسلام السياسي، الإعلامي المتلون، رجل الأمن الوطني، الإرهابي.. إذن فإن الحكاية بشكل أو آخر تشملنا جميعاً؛ تتقاطع مع يومياتنا يبدو وموروثنا الثقافي الاجتماعي، بلغة حية وواقعية وصادقة وأحياناً صادمة.

 

من هنا يمكن التعاطي مع مسلسل “القاهرة كابول” من خلال التطور الذي حدث بوضوح في حبكته من دون أن يتخلى عن فكرته وهدفه في التعامل مع الإرهاب بكل معانيه الخطرة وتحولاته الأخطر، ومن هنا أيضاً يصعب النظر إليه كمسلسل يعد على سبحة المسلسلات التي تناولت الإرهاب والتطرف، ثم عددت صور العنف والدم عبر وجهة نظر هي في الغالب أحادية لا تدخل في جذور المشكلة، خاصة في رسم الشخصية الدرامية ووضعها في إطار جامد لرجال ذوي لحية طويلة يرتدون جلابيب بيضاء، يتحدثون بلغة العنف دون مبرر واضح أو إبراز لجذور المشكلة والعوامل التي أدت إليها، بل يطرح المسلسل أسئلة التعصب والإرهاب، ما يجعل المتلقي يقف أمام خيار من إثنين: إما الدخول في العالم الذي تتناوله الأحداث والتماهي معه حتى الوصول إلى حقيقة غائبة وواضحة في نفس الوقت، وإما البقاء خارجاً، متابعاً عن بعد النبض المعتمل في شرايين المسلسل وروحه، ومحاولاته إعادة بلورة المعطيات الحية والواقعية، ولعب دور المفكك والمشرح للسلوك البشري في مجتمع حائر في المتاهات القاسية.

 

كشف المسلسل عبر حلقاته حتى الآن، حجم التراجع المستمر في الوعي الفردي والجماعي، ذلك أن صناعة التعصب هي ناجمة بلا شك عن الجهل، وهي لم تزل على عهدها تنتج أعداداً من القتلة، يمارسون همجية، بألف حجة وحجة، ضد البشر والفكر والتاريخ والحضارة التي خرجوا منها وعليها، يتمترسون وراء الدين، ويمارسون التزمت بتفسير منقوص للذاكرة والتراث، ويُفعلون فنون الموت والتجهيل والتسطيح والتزوير.. صناعة تستغل الذات المحاصرة بالفراغ الروحي والمعرفي والإنساني، وتمتلك معامل جمة لإنتاج البؤس والرجعية والانكسار.

 

من أهم ميزات (القاهرة كابول) أنه لا يمكن اختزاله في صورة نمطية عن العنف والإرهاب، لكنه يحث على الاستمرار في بلورة خطاب الوعي والمعرفة، على الرغم من هذا الكم الهائل من الشقاء والعتمة الذي يحاصرنا، يسعى للتعمق في الذات الإنسانية بنفس درامي يُمسك باللحظة الراهنة، ويستعيد بعضاً من ألق الماضي، كما حدث مثلاً في المشهد الطويل نوعاً في الحلقة الثانية، حين التقى الأصدقاء الأربعة أبناء السيدة زينب، وأبناء الجرح العميق في النفس والروح والجسد، جرح خيبة الأمل والانكسار عند الخط الفاصل بين أحلامهم القديمة المسلوبة ومتاهاتهم المفتوحة على الوجع والألم من كل حدب وصوب.

 

المشهد بكل مرونته في المد والجزر بين الأمس واليوم، وحتى السجال والمناظرة ظل على مسافة بعيدة من الخطابية والمباشرة إلا قليلاً، ظهر هذا القليل في بعض المشاهد التي لا تقلل من أهمية العمل، لكنها صنعت هذا التأرجح الذي لا يخل بالقضية، بل يؤكد أنه ليس المطلوب خطاباً سياسياً مشبعاً بالانفعال البارد، وإنما سرد منسوج بحساسية جمالية وفنية وإنسانية، تتشارك مع بعضها البعض في صناعة الحكاية، صحيح أن جوهر النص يستدعي الجدل والأسئلة المباشرة والكامنة كذلك، لكنه مفتوح على التحولات الحاصلة والتي تسيطر على المشهد الواقعي، كما لو كان يذكرنا بأن الحقيقة أقسى مما يمكن أن يتخيله العقل أو يشعر به الوجدان.

 

على أية حال فإن المسلسل منذ بدايته يلعب على التضارب في أحوال الواقع، كذلك في الاختلافات بين الشخصيات وطبيعتهم، ليبرز حجم المأساة المشرعة على الوقائع اليومية، وهو الملمح الذي أدركه أبطال المسلسل: طارق لطفي، فتحي عبد الوهاب، خالد صالح، أحمد رزق، حنان مطاوع، والآخرون، وعلى إثره جسدوا شخصياتهم بكل تفاصيلها المشتبكة بواقعهم ومجتمعه، وبإدارة مخرج يعي حجم القضية والتفاصيل الإنسانية والحكايات والمفارقات المتنوعة، فالتقط كل ذلك في إطار بصري مناسب، يدخل إلى عمق التجربة والحكاية.

بقلم ناهد صلاح

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر العناوين

عناوين أخرى