أشوف الفيلم بـ وداني

موقع مصرنا الإخباري:

في العام 2004 كتبت مقالاً عن فيلم “بحب السيما” للمخرج أسامة فوزي، كان الفيلم فاتناً، مدهشاً، مستحوذاً على انتباه النقاد، كحالة خارجة عن النسق التقليدي، وهذا ما عبرت عنه وأنا أعدد مآثر الفيلم، وأشيد بعناصره الفنية، بداية من السيناريو والإخراج وأداء الممثلين حتى المكياج، إلا عنصر واحد لم أتوقف عنده، وهو الموسيقى التصويرية، حتى فوجئت الموسيقار خالد شكري مؤلف موسيقى الفيلم يتصل بي معاتباً، لائماً تجاهلي للموسيقى، كان هذا الفيلم على ما أتذكر أول تجارب خالد شكري في الموسيقى التصويرية، لحقه فيما بعد بأفلام طويلة مثل: “ملك وكتابة”، “واحد صفر”، إخراج كاملة أبو ذكري، وأفلام قصيرة مثل: “صباح الفل” إخراج شريف البندارى و”هَدا إلاك” إخراج جيهان الأعصر، كان يتحدث باستفاضة واكتراث، بينما أنا أصيبت بتهتهة في الكلام، ليس عجزاً فقط عن الرد وإنما أيضاً لأنني ضعت في أسئلتي عن هذا الكسل في قراءة موسيقى الفيلم.

تذكرت هذه الحادثة التي علمتني أن أشاهد الفيلم بأذني وعيني، حينما قابلت مؤخراً الموسيقار جورج كازازيان (صاحب موسيقى أفلام: “الجوع” (1986) إخراج علي بدرخان، “قاهر الزمن” (1987) إخراج كمال الشيخ، “زوجة رجل مهم” (1988) إخراج محمد خان، “سيدة القاهرة” (1990) إخراج مؤمن السميحي، “فتاة المصنع” (2014) إخراج محمد خان، هذا غير موسيقى أفلام وثائقية مع المخرج الكبير شادي عبد السلام وغيره)، وتحدثنا عن أهمية الموسيقى التصويرية، وعلى الرغم من ذلك لم يلتفت إليها النقاد كثيراً؛ لم يعطونها حقها اللازم، ثم أخبرني أن الناقد الكبير سمير فريد هو أول من انتبه إلى موسيقاه في السينما، حين كتب في مقاله عن فيلم “الجوع” أن موسيقى الفيلم اكتشاف عظيم.

ما كتبه سمير فريد بقدر ما هو رد اعتبار لموسيقى الأفلام، لكن هل كان كافياً؟ يأت السؤال من إغفال غالبية النقاد لعنصر الموسيقى كجزء رئيسي في صناعة الفيلم، وهذا يحيلنا إلى سؤال آخر: “ما الذي نستمع إليه في الموسيقى؟”، لعله السؤال الأنسب في هذه اللحظة، وإن كان هو ذاته السؤال الذي اختاره المؤلف الموسيقي الأمريكي أرون كوبلاند عنواناً لكتابه الصادر عن مؤسسة المدى للثقافة والنشر، بترجمة محمد حنانا، متناولاً في ثلاثمائة صفحة مقسمة إلى ثمانية عشر باباً، كيفية الاستماع للموسيقى، سواء على المستوى الحسي أو التعبيري، مبيناً أن المستمع العادي للألحان لا تحتفظ بها ذاكرته وأن القدرة على تمييز النغمة عند سماعها ليست أكثر من عفوية موسيقية لها أهمية محدودة بالنسبة لفهم الموسيقى فهماً حقيقياً، ومُقراً بأن جميع الكتب التي تدور حول موضوع فهم الموسيقى، لا تستطيع تنمية التذوّق السمعي، بل سماع الموسيقى هو ما يفعل..

المستمع المثالي كما يقول كوبلاند هو داخل الموسيقى وخارجها في نفس اللحظة، كوبلاند هنا يخاطب المستمع الغربي ويشرح له بتبسيط واضح ما هو بديهي في صلب ثقافته التي تربّى عليها، فإن سماع الموسيقى البحتة يعد ثقافة غربية في الأغلب الأعم، لذا يشير سؤالي نحو ثقافتنا الشرقية عموماً والعربية خصوصاً، فنحن شعوب كلامية مولعة بالكلمة أكثر من اللحن، أو في تقدير آخر تؤثر المزاوجة بين الموسيقى والغناء ولا تكتفي بالموسيقى وحدها.

هل بهذه الطريقة نملك مفتاح التذوق الأولي؟ سؤال آخر يخص علاقتنا بالموسيقى إجمالاً، فما بال لو اتجه السؤال قليلاً نحو الموسيقى التصويرية أو موسيقى السينما أو الموسيقى المصاحبة في الأفلام أو أياً كان المصطلح الذي يختاره النقاد لـ” ساوند تراك Saound track”، المعادل المسموع للمشهد السينمائي، هذا العنصر الأساسي في عملية صناعة الفيلم الذي يشعل الخيال، ويزيد الصنيع البصري ثراء بدلالات متباينة يطرحها الصوت الموسيقي على الصورة، ما يدركه الجمهور فيتماهى مع هذه الدلالات ما بين الفرح والحزن، الغضب والخوف، الخيبة والأمل، ربما من هذه الزاوية تتدفق أسئلة أخرى هي على سبيل المثال: هل الموسيقى التصويرية عملية صعبة؟ هل تحتاج إلى مؤلف موسيقي لديه قدرة تخيلية رحبة؟ هل الموسيقى تستوقف فعلاً جمهور السينما؟ هل العزف المصاحب للصورة يؤثر في هذا الجمهور؟ ماذا لو كانت الموسيقى غير ملائمة؟ ماذا لو كانت رائعة؟! والأهم، وهو ما يعيدنا إلى سؤال البداية، ما هي قيمة الموسيقى التصويرية عربياً؟…

الموسيقى التصويرية لغة مجهولة عربياً، بدت هذه الجملة القاطعة حُكماً يخص الموسيقى، لكنها لم تحسم بوضوح هل هي مجهولة جماهيرياً أم فنياً؟ وإذا كان الأمر يتعلق بالجمهور فكيف تتأتى له كل هذه الرهافة حين يستمع إلى مقطوعة ما فيستدل من خلالها على الفيلم الذي إنسابت منه، أي أنه كما يقول البعض أصبح يرى الفيلم بأذنيه، أما بالنسبة للناحية الفنية..

إن المتتبع للحركة السينمائية المصرية، لابد أن يلحظ حضور بارز لأسماء كبيرة من موسيقيين تركوا بصمة قوية على الخريطة السينمائية، وبقيت موسيقاهم أمارة على الفيلم؛ موصولة به ويستجيب لها الجمهور إيقاعاً ولحناً من الناحية العاطفية، حتى وإن لم يستكشفها تقنياً أو يدرك صيغتها أو قالبها المحدد، فإن هذا أمر لا يخطر ببال المشاهد أو المستمع العادي ولا يعنيه، ما يلفت إنتباهه فقط هو جمال اللحن من عدمه، فهناك جمال إستحق الخلود، وإلا كيف نفسر الحضور الدائم لموسيقى أفلام موسيقار مثل علي إسماعيل الذي لم يسهم فقط في نهضة الموسيقى سواء عبر الأغنية الوطنية، أو من خلال اهتمامه بتجميع الفولكلور والتراث المصري، وتقديمه الأغنية الشعبية كما فعل مع فرقة رضا مثلاً، بل قام أيضاً بتأليف نحو 350 فيلماً، من بينهم: “يوم من عمري”، “السفيرة عزيزة”، “الشموع السوداء، “الأيدي الناعمة”، “معبودة الجماهير”، “صغيرة على الحب”، “مراتي مدير عام”، “شفيقة القبطية”، “”آه من حواء” “عروس النيل”، “زقاق المدق”، “القاهرة في الليل”، “الاختيار”، “الأرض”.

نفس الأمر ينطبق بديهياً على الموسيقى في الأفلام أخرى عدة لأخرين، فهل يمكن أن ننسى مثلاً موسيقى أحمد صدقي في ريا وسكينة (1953) إخراج صلاح أبو سيف، ونردد معها: “أنا إيه ذنبى حدفت لى المنديل البمبي”، أو سليمان جميل في فيلم الحرام (1965) إخراج هنري بركات، أو عمار الشريعي في البريء (1986) إخراج عاطف الطيب، أو هاني شنودة في المشبوه (1981) وشمس الزناتي (1991) إخراج سمير سيف أو موسيقى كمال بكير في أفلام محمد خان، أو راجح داود في أفلام داود عبد السيد؟! والأمثلة أكثر من أن تحصى…

بقلم
ناهد صلاح

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر العناوين

عناوين أخرى