تحية للطواقم الطبية في غزة: أنتم منارة النور! بقلم توفيق الناصري

موقع مصرنا الإخباري:

كان لنبل وصمود الطواقم الطبية الفلسطينية في تقديم المساعدة رغم خطر الموت أثر عميق في نقل الرواية الحقيقية للأحداث إلى العالم.

قبل أيام وصلتني رسالة من عدد من الأطباء العرب الذين يعيشون في الخارج وما زالوا يحملون في قلوبهم أوطانهم ولغتهم وثقافتهم. إنهم يعيشون آلام أمتهم العربية وآمالها، ويبذلون قصارى جهدهم للمساهمة الفعالة في تحسين حاضرها ومستقبلها.

وأعربوا في هذه الرسالة عن حزنهم لرؤية أبشع عدوان يرتكبه الإنسان ضد أخيه الإنسان. إن ما شهدوه منذ أكثر من شهر جعلهم يعتقدون أن البشرية لم تتقدم خلال الستة آلاف عام الماضية. حتى أنهم بدأوا يعتقدون أن التاريخ يدور حول أشخاص يقتلون أشخاصًا آخرين لا يعرفونهم.

وأضافوا، مع التركيز بشكل خاص على هذه النقطة بالذات:

“لا يسعنا إلا أن نتأمل في العدد الذي لا يحصى من الساعات والأيام والشهور والسنوات التي أنفقناها لعلاج شخص مريض. وفي الوقت نفسه، يقتل هذا العدوان وآلة التطهير العرقي الآلاف من الأطفال والنساء والرجال الأصحاء والأبرياء. الجرحى يتوزعون هنا وهناك، والمستشفيات تهدم، والمعدات الطبية تدمر، والفلسطينيون محرومون من المساعدة الطبية ويموتون بسبب المرض والجوع والحرمان من المياه”.

وأوضح الأطباء في رسالتهم:

“إن صورة آلاف القتلى من الأطفال والنساء في غزة هي أكبر عار تشهده البشرية جمعاء في القرن الحادي والعشرين”.

الطواقم الطبية والأطباء الفلسطينيون في مستشفيات غزة، التي أصبحت ملجأ لآلاف الأطفال والنساء بعد تدمير منازلهم، يظهرون الموقف الأكثر نبلاً وإنسانية. ولم يترك أي من المتخصصين في الرعاية الصحية – الأطباء والممرضات على حد سواء – مستشفياتهم على الرغم من التهديدات الإسرائيلية باستهدافهم. لقد خصصوا كل وقتهم ومواردهم لعلاج الجرحى، معلنين أنهم لن يغادروا المكان ويخاطروا بحياة مرضاهم. إن هذا الموقف المشرف يدل على صفة إنسانية تعيد ثقتنا بالإنسانية في هذا الوقت، خاصة ونحن نشهد الأعمال الوحشية لمعتدي عنصري لا يرحم. جريمة المعتدين الإسرائيليين لا تنتهي هنا.. “إسرائيل” قتلت أكثر من 200 طبيب وممرض واعتقلت عدداً من الطواقم الطبية.

لقد أصبحت مستشفيات غزة ساحة معركة مفتوحة يتعرض فيها الجرحى والطواقم الطبية وعائلاتهم وأولئك الذين يأتون للمساعدة في إنقاذ الأرواح، إلى التعذيب والاضطهاد. وهذه هي المرة الأولى التي يستطيع فيها أي شخص في جميع أنحاء العالم أن يتذكر تحول المراكز الطبية إلى أهداف للإبادة الجماعية والتطهير العنصري، على نحو يذكرنا بالعصور الوسطى والحروب الاستعمارية للاستعمار الغربي. وهذا يتناقض مع كل الأخلاقيات والأعراف والقوانين الدولية التي التزمت بها جميع الأطراف في زمن الحرب وعلى مر التاريخ. خلال الحرب العالمية الثانية، اعتاد المقاتلون وضع علامة X كبيرة على أسطح المستشفيات للإشارة إلى الطائرات الحربية بضرورة عدم قصف هذه المنشأة.

والأمر الأكثر ترويعاً هو الصمت المطبق من جانب منظمات الأمم المتحدة والجهات المعنية بشأن اعتقال وقتل الطواقم الطبية، فضلاً عن التدمير الممنهج للمستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد. ومن المؤكد أن وسائل الإعلام الغربية وقفت إلى جانب المعتدين ودافعت بلا خجل عن حق الفصل العنصري في ارتكاب التطهير العرقي ضد المدنيين الفلسطينيين. وهذا يؤكد أن هذه القنوات الإعلامية الغربية ليست سوى أدوات دعائية للأنظمة القمعية والاستعمارية والعنصرية.

ومن ناحية أخرى، كان لنبل هذه الطواقم الطبية الفلسطينية وصمودها في تقديم المساعدة رغم خطر الموت، الأثر العميق في نقل الرواية الحقيقية للأحداث إلى العالم. ويأتي ذلك وسط حملة خداع وأكاذيب وتشويه دبرها الإسرائيليون عبر وسائل الإعلام الغربية وحكوماتها، زاعمين كذبا أن المستشفيات إما تؤوي مسلحين أو تخزن أسلحة. إن العالم الغربي اليوم، الواقع تحت تأثير اللوبيات الصهيونية والمبتلى بتصويرها الاستشراقي للعرب والمسلمين، لا يفهم كيف تتعرض الطواقم الطبية للقتل والاعتقال والإصابة، ومع ذلك يرفض التخلي عن مرضاها ويصر على ذلك. تقاسم نفس المصير.

تحية صادقة وتحية صادقة لكل الطواقم الطبية التي تحملت الحرب على غزة، وضحت وأذهلت العالم بأدائها وأخلاقها، سألقي الضوء على التراث العربي والإسلامي الذي شكل إطار هذه الفرق الطبية. .

شهد العصر الذهبي الإسلامي، الممتد من القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر، العديد من التقدم الكبير في العلوم. ومن هذه المجالات العلمية الهامة التي شهدت تطورا كبيرا كان الطب الإسلامي، الذي شهد بداية الممارسة الطبية لتشبه أنظمتنا الحديثة. ومن المؤكد أن هذه الفترة من تاريخ الطب كانت متقدمة بقرون عن أوروبا التي كانت لا تزال تعيش في العصور المظلمة. لم تكن التجارب البحثية الطبية لشفاء المرضى وتدريب الأطباء الشباب مجرد مساعي علمية بعيدة عن الهوية الإسلامية للعلماء المسلمين؛ بل كانت ممارسة دينية وتعبيرًا عن هويتهم الإسلامية. إن قراءات القرآن والأحاديث، التي تنص على أن المسلمين ملزمون برعاية المرضى، تعتبر أساسية لممارسة الطب الإسلامي. قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إن الله خلق دواء لكل داء، وأن من واجب المسلمين العناية بالجسد والروح. وهذا بالتأكيد يندرج في إطار توفير نهج شمولي للصحة وضمان حق جميع المواطنين في الحصول على الخدمات الطبية.

كانت المساهمة الكبرى للعصر الإسلامي في تطور الخدمات الطبية هي إنشاء المستشفيات، والتي تم تمويلها من خلال التبرعات الخيرية المعروفة باسم ضريبة الزكاة. وهناك أدلة ملموسة على أن هذه المستشفيات أنشئت خلال القرن الثامن، ثم سرعان ما انتشرت في جميع أنحاء العالم الإسلامي، حيث وصل عددها إلى أكثر من 30 مستشفى. قدمت هذه المستشفيات الرعاية الصحية للمرضى في الموقع، وأرسلت أطباء وقابلات إلى المناطق الريفية، كما وفرت مكانًا للأطباء وغيرهم من الموظفين للدراسة والبحث.

في الوقت نفسه، كان نظام تدريس الأطباء منظمًا بشكل جيد، وعادةً ما يكون على أساس الدروس الخصوصية. يضمن الأطباء في مناطق معينة أن يسافر الطلاب من مدينة إلى أخرى للتعلم مع الأفضل. بالإضافة إلى ذلك، كان الأطباء المسلمون دقيقين في حفظ سجلاتهم، وذلك جزئيًا كوسيلة لنشر المعرفة ومشاركتها، ولكن أيضًا لتقديم ملاحظات لمراجعة الأقران في حالة اتهام الطبيب بسوء الممارسة الطبية.

أنشأت النساء السوريات واللبنانيات اللاتي هاجرن إلى البرازيل في أواخر القرن الثامن عشر مستشفى في مدينة ساو باولو بالبرازيل، عرف باسم “المستشفى السوري اللبناني”. ويعتبر اليوم أهم مستشفى في أمريكا اللاتينية، حيث يحافظ على تراث الأجداد من خلال الاهتمام بالشفاء الجسدي والروحي. كما أنشأت أيضًا برنامجًا للمنح الدراسية وتدريب الأطباء، مما يعكس ممارسات الأطباء في العصر الإسلامي. وقد تابعت هؤلاء النساء، وأغلبهن مسيحيات، إنجازات العرب خلال العصر الذهبي الإسلامي. وبالتالي، فإن الثقافة التي نفخر بها جميعًا ليست حكرًا على المسلمين بأي حال من الأحوال. وقد ازدهرت في العصر الإسلامي، وحافظ عليها المسلمون والمسيحيون وساهموا فيها على السواء في أراضٍ لم يفرق فيها الأنبياء ولا بين أتباعهم.

وإلى هؤلاء الصهاينة المتوحشين وحلفائهم الغربيين الذين يقتلون آلاف البشر بآلاتهم الحربية الهمجية ولا يفهمون معنى الرحمة والنبل والشهامة والتضحية، نقول: إنكم تحاولون تدمير حضارة ضاربة في عمق التاريخ وضاربة في عمق التاريخ. راسخة في قلوب الناس، لكنك لن تنجح.

وإلى كل الطواقم الطبية والإعلامية العربية التي تحدت الموت قائلة “لن نخون ثقافتنا وتاريخنا وإنسانيتنا”، نقول: بوركتم فأنتم المنارة الحقيقية للرحمة الإنسانية في هذا العصر. وفي هذه الأثناء، انحدر الساسة ووسائل الإعلام الغربية إلى العصور المظلمة التي شهدت أحداثاً مماثلة: مجازر، وتدمير مدن، وقصف مستشفيات ومنازل. إن شعلتكم الإنسانية ستنير طريق هذه الأمة نحو النصر رغم كل حروب الإبادة والتطهير العرقي. لقد انتصرتم من خلال التزامكم بتاريخكم وأخلاقكم.

فلسطين
إسرائيل
المستشفيات في غزة
غزة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر العناوين

عناوين أخرى