حين ألوذ بموسيقى “المشبوه”

موقع مصرنا الإخباري:

الأمور المحيطة ضاغطة، من كورونا إلى قضايا سياسية ومصيرية، إلى الحر الشديد والتغيرات المناخية العاصفة، العالم كله يتأرجح وأنا حين تشتد الأمور بهذه الطريقة في البلد، ألوذ بالموسيقي. ففي الأوقات الصعبة تكون هي حمايتي وسندي في أحوالي الأصعب، وفي هذه اللحظة بالذات، أرغب في لحظة سكينة صافية وعميقة، لحظة مفتوحة على أفق جديد. لا يعني الجديد فرحاً وجمالاً، لكنه احتمال، وهذا الاحتمال قادني إلى مقطوعة الموسيقار هاني شنودة في فيلم “المشبوه” إخراج سمير سيف، فاستكنت للإنصات والتأمل.

تتساءل المقطوعة الموسيقية: هل سيتوب اللص، هل سيغيره الحب، هل سيتركه ضابط الشرطة ويعتقه من المطاردة؟ هل سيتوقف شقيقه هو الآخر عن ملاحقته وإجباره على العودة ثانية إلى السرقة؟.. هكذا وصف الموسيقار هاني شنودة عبر حضوره في أكثر من برنامج تليفزيوني، طريقته في تأليف هذه المقطوعة، وكيفية قراءة الجملة الموسيقية بها، حيث أكد أنه قرأ السيناريو قبل الشروع في العمل؛ ثم تماهى معه واندمج مع تفاصيله، وحمله هذا الاندماج إلى تساؤلاته التي صاغها في لحنه، كل نغمة هي سؤال عن حال البطل وحكايته ومستقبله غير المعلوم، اللحن يتكلم إذن ويسير تصاعدياً مع حكاية الفيلم، يلتقط منها ما يساعد على تأويلها والمُضي في دهاليزها، لكنه لا يعطي إجابة ولا يمكنه أن يخبر بالخطوة التالية؛ إنه يجيد التلفت نحو الفكرة، والفكرة هنا بنت الحيرة، واللحن يعبر عن هذه الحيرة ويناجيها ويجر الجمهور إليها ليشاركه في تساؤلاته ثم يقول معهم “الله أعلم”، فلنتابع معاً الفيلم لنعرف الإجابة ونتتبع مصير هذا اللص العجيب، الجريح بفقره، الطالع من مجتمع العدم، الذي يحجل بحب جامح على درب مقفر، من هذا التكوين الدرامي يصيغ شنودة مقطوعته ويختتمها بجملته الموسيقية الطويلة التي تستجيب لحالة الحيرة وتصل معها إلى نقطة “الله أعلم” دون أن تُرسي أحداً على بر أو ضفة.

لا شيء أكثر مما فعله هاني شنودة يمكن أن يرشد عن حال فيلم “المشبوه” (1981) أول أفلام تحوّل عادل إمام إلى سينما الحركة والأكشن مع المخرج سمير سيف بعد مرحلة السبعينيات الكوميدية، ربما من هذه النقطة كان التحدي الذي واجهه شنودة أكبر على أكثر من مستوى، سواء من ناحية تغير مسار النجم الكبير أو المعاني الخبيئة في الموضوع الدرامي، فهذا فيلم يمشي في هواجس حاضره إلى غد لا يعلمه أحد، ولا يعرفون إذا كانوا سيصلون إليه من الأساس، فيلم عن الانكسار المُوجِع وعن المقاومة والنهوض أيضاً في تلك المرحلة الزمنية المشرعة على بداية الثمانينيات، عقب السبعينيات بنسقها الاستهلاكي والملتبس، بين فوضوية المجتمع وعبثية الفقر وانسحاق الإنسان تحت وطأة الحاجة، ما عبر عنه سعيد صالح في دوره بالفيلم، الذي استوفى شرطه المهني، الاحترافي المؤثّر عند تجسيده لشخصية “بيومي” الأخ الأكبر للبطل، حين قال لأخيه قبل أن يموت: “أول سرقة ليا كنت ابن 12 سنة، كان طقم دهب وانت كنت بتصرخ من الجوع، أمك كانت عيانة مش قادرة على الشغل، بعت الطقم واشتريت لك لبن، أنا حاسس إني هبطل ندالة؛ لأني هموت، واحنا ما سمعناش قبل كدة عن ميت بيعمل حركات ندالة”.. كان هذا الأخ الأكبر رمزاً لـ”نذالة” السبعينيات وكان أيضاً ضحية، طريدة مجتمع متشنج بتحولاته الاقتصادية والسياسية، والضعيف فيه شريد لا يلق أي نوع من الود، هذا المعنى يقترب منه الفيلم المطوّق بالجغرافيا والتاريخ سوياً، كان عرضه الأول في العشرين من يوليو في العام 1981 قبل اغتيال السادات بشهور قليلة، الاغتيال الذي أنهى مرحلة تدربت فيها الذئاب أن تركض وراء كل شيء، لعل هذا ما نقله الفيلم في أجواء بوليسية مشحونة بالملاحقة المنهكة لكل الأطراف، والتي أدركتها موسيقى هاني شنودة منذ بداية الأحداث بحدس واعِ لها، يستهل الفيلم بـ أفان تيتر” لخروج البطل مع شقيقه كشبحين يتسللان من حارة شعبية في وقت متأخر في ليل هاديء وخالِ من المرور البشري؛ يدلفان داخل ممر حجري مظلم صغير، يتركان مخرجه الهلالي كالقوس الذي يظهر كما لو كان فتحة تفضي إلى ملجأ للمهمشين، لا مؤثر صوتياً سوى لخطواتهما على الأرض، تخترق هدوء الشارع حتى ينضم إليهما صوت فتح باب صندوق التاكسي الذي كان ينتظرهما، مختلطاً بنباح متقطع لكلب غير مرئي، بعده ينطلق التاكسي وتبدأ موسيقى المقدمة بصوت الإنذار والترقب، عاصفة لحنية قوية تنبيء بحالة قلق وارتباك لا حد لها، يبدو هذا المدخل الموسيقي إشارة للتوغل في الدراما التي ستبدأ عما قليل، ومحاولة لفهم مكونات الحكاية التي تبدو في ظاهرها بوليسية، صرخة الأورج التبادلية مع الكمان ودَقة الدرامز، مفتتح لحكاية ماهر النمر؛ اللص الذي يسرق إحدى الشقق وترافقه صوت دقات ساعة غير معلنة، ممزوج بصوت حركته فيما هو يضع مسروقاته الصغيرة في كيس بلاستيكي، حتى تفاجئه فتاة الليل “بطة” بخروجها غير المتوقع، لكنها لم تصنع خللاً في المشهد الذي يتسلل في خلفيته صوت الكمان، ثم إرتطام كعب حذائها بالبلاط وصرخة الأورج عندما يفاجئها ماهر من الخلف ويكتم صوتها، مهدداً لها بسكين: “إشتري عمرك بالسكات”، ولما تنجح في التخلص منه؛ يقول لها:” مستنية أيه؟ ما تصوتي وتلمي الناس”، ترد عليه: “فشر! ربنا يجعلنا قطاعين أرزاق.. شوف أكل عيشك شوف”، لتبدأ شحنة العاطفة تلفهما بمصاحبة صوت الكمان مرة أخرى، بعدها رحلة الحب والمطاردة والتوبة والزواج وإنجاب طفلهما الوحيد، لكن الزمن القاسي لا يتركهما في حالهما، فيصبحان مشدودين بين طرفين كل منهما أصعب من الآخر، الشرطة وشقيقه الذي يغويه بالعودة إلى السرقة، حتى يقع في الفخ ويسجن، ليخرج إلى دائرة ملاحقة جديدة؛ وماهر النمر يحاول أن يقاوم الزمن القديم إلى حاضر يضمن له ولابنه غد آمن.

حالة التحدي التي تصدى لها هاني شنودة في هذا الفيلم، هي جزء من تحد أعظم للعمل في مجمله، فأن يقوم ببطولته نجم كوميدي أحبه الجمهور في لونه الأول، إذن يصبح السؤال كيف يمكن أن تحدث هذه النقلة النوعية في التجسيد؟.. هذا ما حدث عبر هذه القصة التي كتبها المخرج سمير سيف مع السيناريست إبراهيم الموجي الذي سبق أن تعاون معه في فيلم “دائرة الانتقام” (1976)، معلناً ميلاده الحقيقي ككاتب سيناريو؛ تنوع لاحقاً في كتاباته الفيلمية التي بلغت 19 فيلماً تقريباً، على هذه الخلفية يبدو التحول الذي حققه سمير سيف مع عادل إمام مثمراً، راسماً المسار المختلف لنجم إرتبط حضوره الفني البراق بزمن الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، وما خلفه من ظهور طبقة السادة الجدد الذين تحكموا في اقتصاد مصر، مساره الجديد بدأ في أول الثمانينيات؛ تلك المرحلة التي دشنت فيها تيار الواقعية الجديدة في السينما والتي تعاون فيها عادل إمام من خلال “الحريف” مع محمد خان و”أفوكاتو” مع رأفت الميهي، ليظل لسمير سيف السبق في التغيير الذي حدث لعادل إمام، والذي وصفه سيف قائلاً:” كانت أولى تجاربه معى بمثابة النقلة له وفيلم المشبوه، لأنه من خلاله أثبتنا أنه ممثل جيد وليس مجرد كوميديان.. أخصب فترة في تاريخنا الفني، تجربة لازالت في الوجدان الشعبي، كان فيها عادل إمام الممثل يخضع لشخصية البطل وليس العكس، كانت لديه قدرة تمثيلية أخضعت ذاته ونجوميته الضخمة للشخصية وأثبتت أنه محترفاً حقيقياً”، وعلى هذا الأساس ظل اسم عادل إمام هو الأول على التيتر، باستثناء فيلم التحول والتغيير “المشبوه” حيث سبقه اسم سعاد حسني، التي كانت حتى هذه اللحظة النجمة الظاهرة، ولتألقها رسوخاً يساوي حضورها المتراكم في أعمال عدة وخلال زمن أفرز نجوماً في مجالات الكتابة والإخراج والغناء وغيرها .

إذن. فإن “المشبوه” دشن لنجاح تجربة سمير سيف وعادل إمام، فألحقاه بسبعة أفلام أخرى هي ” الغول، الهلفوت، النمر والأنثى، المولد، شمس الزناتي، احترس من الخط، مسجل خطر”، وهو ما حدث كذلك مع هاني شنودة؛ فتكرر تعاونه مع عادل إمام في أفلام “الحريف، الغول، شمس الزناتي، إحترس من الخط، عصابة حمادة وتوتو”، بعد أن صنع حالة جدلية بين الموسيقى والحكاية في “المشبوه”، حالة أسهمت في التواصل بشغف مع الحكاية وعمقت من الإحساس بها، واستدعائها بمجرد سماع المقطوعة الموسيقية بمعزل عن الفيلم، بل والأكثر دهشة أنه يمكن قراءة هذه المقطوعة وفهمها من هذه الزاوية الدرامية؛ وتتبع صوت الأورج وتمييز تموجاته المختلفة وإمكانية إصداره أصواتاً تشبه آلات أخرى، كما فعل شنودة في هذا الفيلم بإيقاع مشدود على مقاس الحكاية والتجربة والتحدي وحركية الفيلم.

بقلم
ناهد صلاح

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر العناوين

عناوين أخرى