القاهرة – كابول .. سردية جدلية تكشف جذور الإرهاب

موقع مصرنا الإخباري:

تنوعت المعالجات الدرامية المصرية الخاصة بقضايا العنف والإرهاب بتنوع الآراء والثقافات وزوايا التناول، لكن القليل منها هو الذي اعتنى برصد مواطن التطرف وأسبابه وذهب بعيدا عن النطاق الجغرافي المحلي، متتبعا خطوط وخيوط الأزمة منذ بداياتها وحتى تفاقمها، مرورا بكافة التفاصيل الكبيرة والصغيرة، مصادر التمويل والعمليات والشخصيات والتجارب الإنسانية والشخصية في رحلة قادة التيارات العائشين في الصحاري والجبال، والمتأزمين بأفكارهم ودوافعهم والحاملين لشعار (دولة الخلافة) التي يسعون لتأسيسها ويتحملون في سبيلها عناء المطاردة والشتات والقتل، لكن شيئا مغايرا بدا لي من خلال مسلسل (القاهرة – كابول) الذي لا يقدم بانوراما متكاملة ليس عن الإرهاب فحسب كنتيجة للطموح والجموح والمجازفة بالأرواح والأموال، وإنما يطرح للتداول ما يشبه الدراسة الاجتماعية والنفسية للعناصر المتورطة في جرائم العنف على خلفيات عقائدية تدفع بهم إلى بذل الغالي والنفيس بلا تردد جراء تحقيق أحلامهم البعيدة.

 

منذ الحلقة الأولى لانطلاقه، حجز مسلسل (القاهرة – كابول) لنفسه وبشكل مبكر للغاية، مكانا، ليس فقط على قمة السباق الرمضاني، وإنما في عقول وقلوب الجمهور، الذي استشعر أنه بصدد تجربة مغايرة تناقشه لكنها لا تصادر رأيه، تستهدف تغييره من دون الاستهانة بوعيه، فعلى جناح نص متقن كتبه السيناريست المبدع (عبد الرحيم كمال) لا مكان فيه للخطاب المباشر والنبرة الزاعقة أو التلقين المتعمد، بل عمد إلى بساطة، وسلاسة في الطرح واختيار شخصيات جاذبة من لحم ودم، وطريقة سرد شيقة، تنسجم وخلفية الجمهور المستهدف بالرسالة ولا تتعالى على وعيه، ما جعل العمل يبلغ مبتغاه ويحقق هدفه، رغم الصعوبة المفرطة، التي تكتنف أية محاولة فنية لتناول ظاهرة الإرهاب باسم الدين.

 

بدت لي براعة عبد الرحيم كمال عبر حوار غاية في العذوبة كما جاء على لسان شخصيات نعرفها، أو ربما تكون قريبة من محيطنا؛ عاشوا طفولتهم في حي السيدة زينب الشعبي المفعم بالحيوية والأجواء الروحانية المستمدة من رحاب (الحوراء) المعروفة بـ (زينب الكبرى)، وحلقوا بأجنحة خيالهم البرئ فأقسموا وهم يرقدون (تحت البطانية) أن يظلوا أصدقاء، وأن يحكموا العالم؛ فعلى سبيل المثال أقسم (طارق كساب) الذي لعب دوره بحرفية (فتحي عبد الوهاب) بحياة الشهرة والجاه، والثراء، و(رمزي) الذي جسده في عذوبة (طارق لطفي) بالمصحف والسيف، و(عادل – خالد الصاوي) بالحق والعدل، ورابعهم (خالد – أحمد رزق)، بحياة السينما، فكان طبيعيا، بعد ما فرقتهم السبل، أن يصبح الأول إعلاميا ذائع الصيت، والثاني قياديا كبيرا في جماعات الإسلام السياسي، والثالث مسؤولاً في الأمن الوطني، والرابع مخرجاً، وأن يجتمعوا، في لقاء أقرب إلى المواجهة العاصفة، شهد صداما فكريا، بين الضابط (عادل) والإرهابي (رمزي) كما برهن على تفاهة وخواء، الإعلامي (طارق) وانتهى باغتيال المخرج (خالد)، رغم أن (عادل) كان هو المستهدف بعملية الاغتيال.

 

وقد برع المخرج حسام على في رصد ملامح وجهي (رمزي) بصلفه المعهود في حديثة، ووجه الضابط (عادل) الصارم في ردوده، وذلك عبر حوار كتبه بعناية عبد الرحيم كمال يعكس كره كلاهما للآخر ليكشف لنا عن بذرة التطرف التي زرعت في قلب وعقل (رمزي) من خلال جاره الشيخ المتطرف (غريب زيدان)، حيث ذكره به (عادل) قائلا الله يرحمه بينما يرد (رمزي) في تحد: نحتسبه عند الله شهيدا يا أخ عادل، فرد عليه عادل على الفور كيف يحسب شهيدا وهو ميت على سريره، لكن أطراف الحوار تمتد إلى اجترار الماضي بينما طرفي الصراع الدرامي.

 

المهم أننا في هذه الحلقة التأسيسية للمسلسل شاهدنا (قعدة تمثيل بديعة) جعلتنا نجلس وكأننا أمام سحرة، كل منهم يبدع ويكشف عن مكنون شخصيته وفكره واتجاهاته، بدون مباشرة ولأول مرة نشاهد ثلاثية (الإرهابي والإعلامي وضابط الأمن الوطني) في مكان واحد خلال عمل درامي ويتناقشون بكل أريحية لأنهم في الأساس أصدقاء طفولة جمعتهم البراءة ولكن اختلفت طريقة تفكيرهم مع الزمن وهى نظرة فلسفية من الكاتب عبد الرحيم كمال، ودار حوار ناضج بين الأربعة أصدقاء يبدو فيه انتقال أخاذ بين الحاضر والماضي، وفي مزج رائع، بين الطرح الديني والسياسي والاجتماعي، وموقف الإسلام السياسي تجاه الفن، والقوى الناعمة، وتوظيف دقيق للوثائق التاريخية النادرة.

 

لا تخلو أية حلقات من حلقات مسلسل (القاهرة – كابول) من مشاهد مبطنة برسائل مهمة تقدم الحكمة والمثل والقدوة والنموذج الإنساني المثالي، تماما كما يرسخ دائما في خيال المؤلف وكاتب السيناريو المبدع (عبد الرحيم كمال) في ذهابه نحو مناطق دافئة في حياتنا المصرية البسيطة، ورغم ما يخيم على أجواء المسلسل من سحب كثيفة وغيوم قاتمة بفعل سيطرة أحداث الإرهاب الأسود، إلا أنك كثيرا ما تلمح ومضات نور في قلب الأحداث الأكثر دموية ومأساوية، ومن هذه الومضات التي تجمع بين العقل الراجح والروحانية عبر دروس بليغة قدمها (عم حسن) أو الأستاذ حسن مدرس التاريخ الذي جسده ببراعة واحترافية النجم القدير (نبيل الحلفاوي) في حب الوطن (مصر) والانتماء والتأكيد على الهوية الوطنية على جناح من الحكمة والفلسفة وخبرة السنين التي عاشها على تراب المحروسة فهام فيها حبا وعشقا.

 

ربما سادت أجواء عاصفة خيم عليها التوتر والقلق والتردد، لكن شيئا في (القاهرة – كابول) لا يحول بينك والتوحد مع أبطاله، والتأسي على حال بعض شخوصه؛ وذلك عبر أسلوب سرد شائق، وطريقة بناء ممتعة من جانب قلم عبد الرحيم كمال، وكاميرا حسام على، فقد صور لنا القضية الشائكة وكأنها (حدوتة) مسلية؛ وهو ما ظهر بوضوح في مشاهد رومانسية عذبة بيم (عم حسن و(ريم) التي قدمتها بسلاسة وجاذبية ملفتة الفنانة الكبيرة (شيرين) هذا بجانب حوارات كثيرة تحمل في طياتها رسائل مهمة للغاية في قلب دراما تحاول تفكيك ظاهرة الإرهاب لكن براعة عبد الرحيم كمال برزت في التناول الدرامي (الإنساني)، والمزح المقنن بين الواقع الآني وخيال الكاتب، فقد جاء مُغايراً لكل ما قدم من قبل، في ما يتعلق بتناول ظاهرة الإرهاب الديني، أو الإسلام السياسي، على الشاشة، وفضح رموزها، ممن باعوا أنفسهم للشيطان.

 

وعن الأداء لابد لي أن أشيد بالعائد على جناح تجربة ناضجة النجم طارق لطفي، جوكر المسلسل، وبحكم متابعتي لمسيرة لطفي التليفزيونية، وعلى الرغم من أنه قدم دور الإرهابي في أعمال سابقة، ولكن هنالك تطور واضح في تقديمه لشخصية الإرهابي (رمزي) فقد تفاعل مع الشخصية على المستوى الداخلي والخارجي وتقمص دور الإرهابي بحرفية عالية هذه المرة، ولعل الأساس في ذلك أن الشخصية كتبت لتكون المزيج – ولعلها الوحيدة – بين الشر ولحظات الضعف التي تصيبه عن أحداث معينة تتقاطع مع مبادئه، وقد برع (لطفي) في الجمع بين شخصية الإرهابي والمحب العاشق كأنه بين شد وجذب بين ما يؤمن به وما يشعر به، كما وضحه رمزي نفسه في مشهد مع مساعدة عندما أخبره بما شعر به بعد رؤية جثة صديق عمره وهو المتسبب في موته.

 

وعلى مستوى براعة الأداء أيضا، قدم الفنان نبيل الحلفاوي الذي قدم شخصية (عم مخلوف) في مسلسل لأعلى سعر عام 2017، والتي كانت تقدم النصح والمشورة بطريقة درامية لأي شخصية في المسلسل في إطار المعقول، لكن أداء (الحلفاوي) يترقى أكثر ويسمو بشخصية (عم حسن) بأداء يجنح نحو مناطق فلسفية غاية في العذوبة في مسلسل (القاهرة كابول) ليقدم ينصح الجميع كذلك، بلسان عربي فصيح وحماس للناس والأرض والوطن، وبنفس الطريقة الدرامية السابقة ولكن مع اختلاف حجم الدور، فالحقيقة أن هنا يكمن الترقي الحقيقي، فكم المواعظ والحكم التي وجهها (عم حسن) بسلاسة عن مصر وأهميتها وعراقتها ومكانتها التاريخية تعددت لتقوى الحبكة والصراع، وقد ساهم الإخراج والتصوير وعناصر الصورة بشكل عام في تأكيد الرمزية والدلالات التي تحترم عقلية المشاهد؟

 

أما بالنسبة لحنان مطاوع فكانت استثنائية في أدائها الناعم الذي يصل إلى حد السهل الممتنع بالإضافة إلى حضور قوي وتمكن من اللغة العربية يظهر عند (حنان / منال) جانب جديد من الشخصيات التي تتمكن منها، وهى الفتاة والمرأة الرومانسية وفي مواضع أخرى المغرية التي تحاول أن تغوي الشاب المتدين الرافض حتى للنظر إليها، كما برعت حنان في العزف على أوتار المشاعر المتناقضة بينها وبين خطيبها (أحمد – نور محمود)، حيث بدت حساسة ومترددة إلى أبعد حد ليؤكد موهبتها الكبيرة ونضجها في الأداء التمثيلي.

 

وبالرغم من قصر دور أحمد رزق بموته في نهاية الحلقة الثانية، وكما يعتبر موته محركا مهما للأحداث حتى تشتد العداوة بين رمزي وعادل فيكون الأمر شخصيًا أكثر منه واجبات وظيفية – إذا صحت التسمية – ولكن لا يمكن إنكار قوة أدائه ليكون حلقة الوسط بين التشدد الديني القوي وتقدير قيمة الفن، كما أنه الأكثر طيبة وحبًا لأصدقائه بينهم، بالفعل هو يمثل الخير المطلق، نوعية من الشخصيات لن تقابلها في حياتك اليومية بكل تأكيد!

 

ولفت الفنان (يوسف سامح) لأنظار له في أول دور يقدمه بالدراما المصرية، حيث ظهر في شخصية مطرب بشتوني يدعى (راشد حكمت)، يلتقي الخليفة الإرهابي، ليبعث مواطن الشجن في نفسه من خلال فنه حين شدا بأغنية أفغانية حازت إعجاب الجمهور و رواد مواقع التواصل الاجتماعي وتبادلوا الحديث عنها، لأنها كانت تحمل رسالة إنسانية سامية للحب والعاطفة.

 

وبدوره أبدع المخرج حسام علي، في تقديم صياغة بصرية، كشفت عن موهبة أصيلة، وحنكة واضحة، في الاستعانة بالوثائق الفيلمية، التي استعان بها في مراحل تاريخية عدة، وأضفت على العمل مصداقية، وواقعية، فضلاً عن الشاعرية، والبساطة، من دون سطحية، أو خطابة تفسد العمل، وتسقطه في فخ التوجيه المباشر أو الدعاية الجوفاء، الأمر الذي يُنبئ بأنه سيكون له شأن عظيم في المقبل من الأيام؛ خصوصاً أنه أظهر قدرة رائعة على اختيار، وقيادة، ممثليه، وتوظيف كل ممثل في الدور المناسب؛ بداية من اختيار طارق لطفي لتجسيد شخصية (رمزي) المثيرة للجدل، التي توحي وكأنها (رمز) لشيوخ الإرهاب قاطبة.

 

الخلاصة أن مسلسل (القاهرة – كابول) كشف الكثير من الأفكار المغلوطة، التي يتناقلها بعض العامة، دون بحث أو تفكير، ورد عليها بالحجة والبرهان، في وقت نحتاج فيها جميعاً للتوعية المستنيرة القائمة على العلم والفهم الجيد لصحيح الإسلام، لنتعاون جميعاً في بناء مصر والابتعاد عن تلك الأفكار الهدامة، لذا لابد من تحية لهؤلاء العمالقة الذين قدموا لنا عملاً رائعاً، أكدوا من خلاله على أن القوى الناعمة المصرية، ستظل دائماً هي الأقوى في العالم العربي، ولا يكتمل العمل الفني نجاحا بسيناريو فقط، ولكن يتطلب عناصر أخرى مبدعة منها شركة الإنتاج “سينرجى”، التي وفرت كل مقومات النجاح من أماكن تصوير وسفر، في توقيت صعب السفر فيه لظروف كورونا، لكنها لم تبخل أمام وجود عباقرة في فن الأداء السهل الممتنع هم (طارق لطفي ونبيل الحلفاوي وحنان مطاوع وفتحي عبد الوهاب) وباقي المشاركين في هذه السيمفونية والجرعة الإبداعية والمتعة بصرية التي جعلت هذا العمل في منطقة بمفرده يعزف فيها وسط دراما رمضان التي يخيم عليها كثير من العنف والبلطجة وغيرها من مظهر سلبية تنال منها.

بقلم محمد حبوشه

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر العناوين

عناوين أخرى