موقع مصرنا الإخباري:
عادة ما يكون التراث خاصة الملاحم القديمة مادة جاذبة للمؤلفين والكتاب خاصة صناع الدراما، وذلك لما تتضمنه من حكايات مليئة بالخيال والأساطير، بما يمنح المبدع مساحة أكبر من التحرر للتعبير عن قضايا العصر وصراعاته المتجددة من خلال إسقاطات الماضى، ربما نجد فيها انعكاسا صادقا لما أبدعه الأجداد، وأيضًا إجابات وتفسيرات للحاضر وصورة مغايرة نحاول الوصول إليها، ونستلهم رؤية لمستقبلنا.
ومن مؤكد أن الاستلهامات الفنية من التراث عديدة ومتنوعة والأمثلة لا تتوقف، أغلبها جاء متناولًا بطولات خارقة وأساطير وخرافات ومغامرات تشويقية وحكايات عاطفية ملتهبة وأجواء مثيرة باعثة على الحيوية، ولعل “السيرة الهلالية” أو كما يسميها البعض سيرة بنى هلال، إحدى الملاحم العربية الملهمة لكثير من الأعمال الفنية.
والسيرة الهلالية مثل غيرها من الملاحم الشعبية وردت فى أكثر من نسخة، وعلى أكثر من لسان، من أبرزها ما جاء فى سيرة أبى زيد الهلالى، أمير بنى هلال وفارس الجيوش العربية، وسيرة الأمير دياب بن غانم الهلالى، أشهر فرسان بنى هلال وعاش فى نفس عصر أبى زيد الهلالى، وتختلف رؤية كل سيرة عن الأخرى فى الحديث عن فارسها، فنجد فى إحداها “الهلالي” يظهر على أنه قاطع طريق وفارس مأجور، بينما “دياب” فارس مغوار وبطل مدافع عن أهله وبلده، وهى بالطبع مختلفة عن السيرة التى تناولتها أغلب المعالجات الفنية.
ومن تلك المعالجات برنامج إذاعى شهير قدمه الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى بالاشتراك مع الشاعر جابر أبو حسين، ومسلسل “السيرة الهلالية” إنتاج 1997، وعلى ناحية أقل شهرة فيلم “أبو زيد الهلالى” إنتاج عام 1947، بطولة الفنان سراج منير، ومن أحدث المعالجات، العرض المسرحى “التغريبة بنت الزناتى”.
وعرض “التغريبة بنت الزناتى” قدم، مؤخرًا، بقاعة صلاح جاهين بمسرح البالون بالعجوزة، جاء من تأليف بكرى عبد الحميد، وإخراج منار زين، ومن بطولة: فاطمة عادل، محمد حفظى، أحمد شومان، أحمد عصمت، أحمد يحيى، عبد البارى سعد، مصطفى يوسف، محمد علاء، هدى عبد العزيز، هانى عبد الهادى، أحمد مهدى، نادين العمروسى، هبة سليمان، كيروجراف مناضل عنتر، موسيقى وألحان هانى عبد الناصر، سينوجراغيا عمرو الأشرف.
ارتكز العرض فى تناوله على مأساة “سعدى ومرعى” إحدى ملاحم السيرة الهلالية، فبعد اشتداد الجدب بنجد والحجاز، لجأت القبائل العربية إلى الهجرة والترحال بعيدًا عن الجزيرة العربية، فيندفع فارس الهلالية أبو زيد ، مصطحبًا الأمراء الثلاثة “مرعى ويونس ويحيى” أبناء السلطان حسن بن سرحان، إلى تونس، ليقعوا فى أسر حاكمها الزناتى خليفة، فيأمر بسجنهم بينما يطلق سراح أبى زيد ليعود إلى نجد، وبدلا من إحضار فدية الأمراء الأسرى، يجهز الجيش لغزو تونس، ثم تدور الدائرة على الزناتى فيقتل بفضل خطة وضعتها ابنته “سعدى” التى شُغفت بمرعى عندما كان فى سجن أبيها، فهى التى أشارت على الهلالية بإرسال دياب إلى أبيها ومنازلته؛ لأن “ديابًا” أقدر الفرسان على منازلة الزناتى خليفة.
ورغم اجتهاد صناع العمل فى إخراج عرض مسرحى مستلهم من الموروث الشعبى معالجا عبر تقنيات وآليات معاصرة، لكن العرض فى النهاية لم يخرج كما كان مأمولا له، ولم تصل الفكرة التى حاول العرض تقديمها، بل وقع صناعه فى فخ توظيف نص مستوحى من الأدب الشعبى، عبر تقنيات معاصرة كوسيلة فنية، اعتمدت فى أساسها على بعض الاستعراضات المتحركة، لكنها لم تضيف للعرض أو لروح النص، وإن تم حذفها لن يتأثر العرض فى شيء.
العرض من البداية جاء مشتتًا فى تناوله، فالمعالجة المسرحية تبدأ من حيث مأساة “سعدى” التى يحاول “دياب” أن يراودها عن نفسها من أجل الزواج منها، بينما هى عاشقة للأمير “مرعى” المرمى فى سجون والدها الزناتى خليفة، مظهرا العرض “دياب” بالوجه الشرير والانتهازى، الذى سطا على انتصار الهلالية لنفسه، لكن المعالجة جاءت مشتتة تماما حتى أنك تجد شخصية مثل “أبى زيد الهلالي” شخصا لا حول له ولا قوة، تجده مندفعا وساذجا، ولا دور له مهم فى الأحداث، بينما تظهر “سعدى” بدور الضحية رغم أنه من المفترض أنها من سلمت مفاتيح “تونس” للهلالية، وحده “دياب” ظهر بدور الشرير الوحيد، دون تبرير واضح لكل هذا الشر الذى يظهره وكل هذا الحنق الذى يكنه لبنى هلال، سوى حبه للسلطة.
الصراع كذلك لم يكن واضحا، فرغم أهميته كعنصر أساسى داخل أى عمل درامى لا يكتمل من دونه العمل الفنى، ويتركز عليها البناء الدرامى، ويكون غالبا صراع بين قوتين متضادتين، ينتج عن تقابلهما أو التحامهما، ما يدفع الحدث إلى الأمام من موقف إلى آخر، ويقود حركة الحدث الدرامى لحركة مستمرة، إلا أن عرض “التغريبة” لم تكن الحركة فيه تصاعدية، وبدت مشتتة من حيث توضيح قوى الصراع الأساسى، هل هى الصراع بين “دياب” و”سعدى” أم صراع بين “دياب” و”الهلالية”؟ أم أن الصراع الأول جزء فرعى من الصراع الكبير على السلطة بين “دياب” و”بنى هلال”؟ كما أن العرض فى النهاية لم يفض إلى شىء أو نهاية واضحة للأحداث، وتشعر أنه انتهى فجأة دون توضيح.
العرض قدم بطريقة “مسرح الغرفة”، اعتمد صناعه على وجود الجمهور على طاولة ترتكز فى منتصف القاعة، يمكن استدارتها بحيث أن كل زاوية رؤية تسمح للمشاهد أن يرى مشهدا من عصر والزاوية الأخرى من الزمن الماضى بتقنية “الفلاش باك”، لكن حركة المشاهد فيه كانت عشوائية وترتيب الأحداث ينم على رؤية غير واضحة، حتى أن المُشاهد يدخل فى حالة من التيه، ففى لقطة يقتل أبو زيد الهلالى بحربة “دياب” وفى المشهد الذى يليه مباشرة من نفس زاوية الرؤية أى أن الزمن لم يتغير، نجده يظهر مجددا وكأن شيئا لم يكن.
الاستعراضات الحركية التى وضعت وحاولت المخرجة منار زين، أن تضفى بها روحا عصرية على التناول التراثى للسيرة الهلالية لم تكن واضحة الغرض، إلا فى تلك التى جاءت بالتزامن مع بعض مشاهد “دياب” خاصة عندما يواجه بنى هلال، لتكون متماهية تماما مع شره الواضح، والذى جسده بإتقان الفنان محمد حفظي.
كذلك جاءت ملابس بعض الاستعراضات باللون الأسود، لتتناسب مع رمزية الشر الممثلة فى “دياب ابن غانم” وشخصية “الأغور” الداعم لـ “دياب” فى شره، وبعضها جاءت “بيضاء” لتتناسب مع الخير أو الاستقرار فى مشاهد أخرى، لكن بافتراض أنه تم حذف تلك الاستعراضات لن تؤثر فى شيء، ولم يكن لها رمزية واضحة سوى الأخيرة، كذلك وضح أن جميع مشاهد “سعدى” و”مرعى” معا، جاءت تمثيلية حركية أقرب للاستعراض، ربما فى إشارة للصراع بداخلهم لما يتمنوه وما هما فيه، لكن الأداء ظهر وكأنه “تنطيط” بلا معنى حقيقى.
كما أن الملابس بشكل عام داخل العرض تشبه – إلى حد كبير – ملابس العصر المملوكى، إذ امتاز رجال هذا العصر بارتداء الأقبية والسراويل والقمصان الفضفاضة الواسعة، مثلما ظهر فى زى أبى زيد الهلالى، ودياب بن غانم، والسلطان حسن، بينما من المفترض أن السيرة الهلالية بالأساس تدور قبل هذا العصر بنحو ثلاثة قرون وبالتحديد فى عصر الدولة الفاطمية، وربما كانت أزياء النساء أقرب لروح هذا العصر حيث اتسم الزى النسائى بصفة عامة بالـ”حلة” ومعناها أن الملابس كاملة مطرزة إما بالذهب أو الحرير، فقط زى “سعدى” والاستعراضات كان هو ما يتسم بالعصرية ربما ليتناسب مع الأداء الحركى المقدم.
اللغة أيضا كانت من المشاكل الواضحة فى العرض، فالبرغم من أن النص من المفترض يرتكز على لهجات ثلاث مناطق هى “البدوية الحجازية، والصعيدية، والأمازيغية” إلا أن اللهجة المستخدمة طيلة العرض كانت واحدة، وهى الصعيدية دون الوضع فى الاعتبار تعدد لهجات الصعيد نفسه.
المميزات فى العرض ربما تأتى من خلال الأداء التمثيلى القوى من أبطال العرض، خاصة الفنان محمد حفظي، الذى استطاع طيلة مدة العرض الإمساك بكفة تفاصيل شخصية “دياب” وإظهار الشر الكامن بداخله وتجسيد رغبته الكبيرة فى “سعدى” والحصول على السلطة، دون افتعال وبأداء بسيط وصادق نابع عن فنان متمرس على خشبة المسرح، كما برعت إلى حد كبير الفنانة فاطمة عادل فى تجسيد انفعالات صادقة تجسد الصراع والخوف الداخلى الذى يسيطر على “سعدى”، وتقدم أداء حركى مناسب لطبيعة الشخصية فى العرض.
وجاءت الموسيقى التصويرية مناسبة إلى حد كبير إلى روح النص، وأضفت حالة شجية فى بعض مشاهد الصراع، خاصة مع استخدام آلات شعبية تراثية تناسب عصر الملحمة مثل الربابة والمزمار، كما أن الأغانى داخل العرض والتى قدمتها المطربة والممثلة هبة سليمان، كانت مميزة وتتناسب إلى حد كبير مع طبيعة المشهد المقدمة فيه، وهو يحسب لـ “هبة سليمان” إنها أدت وغنت بشكل رائع ومناسب لطبيعة دورها كعارفة.
فى النهاية العرض جاء ضعيفا مقارنة بنص تراثى كبير وغزير بالقصص والحكايات، وجاء فضفاضا وغير واضح الجوهر الذى حاول أن يخلص إليه صناع العرض، وهو ما يبرر الأخطاء والارتباك فى العرض، لكنها ليست تبرير لضعف المعالجة بالتأكيد.
بقلم
محمد عبدالرحمن