موقع مصرنا الإخباري:
لو عاد الزمن على جامعة القاهرة لنحو قرن أو يزيد، ستراها شامخة بأساتذتها وطلابها العظماء، وقبتها الفريدة، وطرازها المعمارى المميز، وحدائقها المحيطة من كل الاتجاهات، والقصور المجاورة لها في منطقة بين السرايات، التى كان يملكها أمراء الأسرة العلوية، وما يتخلل هذه المنطقة من مساحات البهجة والجمال، إلا أن هذه الصورة الأوروبية الطابع لم تستمر طويلاً، خاصة بعدما تسللت إليها العشوائيات، وتحولت إلى بؤرة لتخريب عقول طلاب جامعة القاهرة، وسوق كبيرة لتجارة العلم الرخيص، والمناهج “السوتيه”، والمحاضرات المضروبة، والأبحاث المفبركة.
بين السرايات لم تعد اسماً على مسمى، فقد تحولت إلى تجمع فوضوى ضخم يضم تجار الملازم الدراسية، والرسائل العلمية، وسرقة المؤلفين، فبجانب الدور التقليدي المفترض القيام به لتلك المكتبات من طباعة وتجليد وتغليف الكتب وتصوير المستندات، هناك أيضا سرقة المحتوى العلمي لكتب الأساتذة، من خلال ملخصات مشوهة، ومحاضرات يتم تفريغها وكتابتها نصاً بالتعاون مع مجموعة من الطلبة فى كل فرقة دراسية بجميع الكليات، ليتم وضعها فى ورق مزخرف، وبراويز ملونة، لبيعها بثمن بخس.
دكاكين بين السرايات لا تتعامل مع الأساتذة في جامعة القاهرة، بل تتجه إلى مجموعات من الطلاب تُلقى لهم حفنة من الجنيهات، بحيث يتم كتابة ورصد كل ما يدور فى المحاضرات بما فى ذلك “الكحة” التى تصدر على الأستاذ أو المدرس، ليصير الأمر سرقة عينى عينك فى وضح النهار، ثم يتم تلخيص هذه المحاضرات في أسئلة وأجوبة داخل مجموعة صغيرة من الأوراق، وسرعان ما يتحول معها الطالب إلى مجرد متلقى سلبى، ينقل ما حفظه إلى ورقة الامتحان ليخرج إلى الواقع العملى “أبيض يا ورد”، وهذه ظواهر موجودة فعلياً فى كليات الحقوق، التجارة، الآداب، الآثار، الإعلام، وأغلب الكليات النظرية الموجودة داخل الحرم الجامعى.
التحقت بجامعة القاهرة في العام 2001، أى قبل عشرين عاماً، وكنت قادماً من ريف بنى سويف، لا أعرف من المحروسة سوى موقف المنيب ومحطة قطار الجيزة، وعمرى حينها لم يتجاوز 16 عاماً، وقد كان سعر كتاب أحد الأساتذة 20 جنيهاً تقريباً، ولم يكن الأستاذ يشترط شراء الكتاب، كما يفعل البعض فى كليات أخرى، ليأتينى زميل في نفس الفرقة وينصحنى بتصوير الكتاب فى مكتبات بين السرايات بدلاً من شرائه، فالخيار الأول تكلفته 5 جنيهات، بينما الثانى أربعة أضعاف.. وأمام وسوسة الشيطان تمت أول عملية اعتداء على حق المؤلف وصورت الكتاب، وكررت هذه التجربة لعدة مرات على مدار سنوات الدراسة.
تصوير كتب الأساتذة وإن كان اعتداء على حق المؤلف، وأمر لا يجب أن يُقدم عليه من يطلب العلم، إلا أنه أقل خطورة من الملازم والمحاضرات والملخصات المشوهة التى يتم طباعتها وبيعها بأسماء الأساتذة وجمع أموال طائلة من خلالها، بل أكثر من ذلك وأكبر جرماً الأبحاث العلمية ورسائل الماجستير والدكتوراه، التى تباع وتشترى أيضا داخل “بين السرايات”، فقد تكدست المنطقة العشوائية بمكاتب الإحصاء التى تتولى عمل الجداول ورصد نتائج العينات للدراسات العلمية، ثم المكاتب التى تخصصت فى تعديل الرسائل بعد إجازتها، بل وصل الأمر إلى فكرة المكاتب التى تقدم معايير كتابة رسالة بحثية ناجحة، على طريقة تعلم اللغة الإنجليزية فى 6 أيام!!
مادامت الامتحانات تتم بصورة تقليدية غير مبتكرة، ستظل بين السرايات مصدراً للعلم المُعلب، والمحاضرات المشوهة، لذلك كان ينجح كل زملائى الذين يعتمدون على هذه الملازم والمذكرات، وفقط يقف أمامهم امتحانات بعينها لأساتذة يبتكرون في أسئلة الامتحانات، وأذكر منهم الدكتور فرج الكامل، أستاذ الإعلام وصاحب نظرية المعرفة والتغيير الاجتماعى، الذى كان امتحانه عبارة عن 50 سؤالاً لا تحتاج كتابة مقالية أو نظرية بل تعتمد على الفهم، وجميعها ضع علامة صح أو خطأ، وبالمناسبة كانت الأصعب فى كل الامتحانات بالكلية، ثم امتحان مادة التحرير الصحفى للدكتور محمود خليل، أستاذ الصحافة والمحاضر المعروف، الذى كان امتحانه عباره عن نصوص صحفية، وعلى الممتحن أن ينتج منها الدلالات التى فهمها، والقضايا التي تعبر عنها، ونماذج عديدة من أساتذة كبار تعلمنا منهم ومازلنا نتعلم.
لو كنت فى موقع الدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، لأعددت خطة متكاملة على كل المستويات لمواجهة منطقة بين السرايات وما تنتجه من تخريب متعمد للتعليم الجامعى فى مصر، على كل المستويات، بداية من الملاحقة القانونية لأصحاب المكتبات التي تسرق المحتوى العلمى، مع توجيه الأساتذة إلى إقصاء أى طالب ينتقل أو يبيع المحاضرات، وشن حملة إعلامية تحت مظلة الدولة للتوعية بخطورة هذه المكتبات وتأثيرها على التعليم الجامعى، حتى لو وصل الأمر إلى عمل إعلانات مدفوعة الأجر لمواجهة هذه الظاهرة، التي لا تقل خطورة عن تعاطى المخدرات أو ختان الإناث أو الزيادة السكانية أو كل القضايا الكبرى التى نتحدث فيها منذ سنوات طويلة.
مواجهة مكتبات تخريب العقول فى بين السرايات أهم من أى نشاط داخل جامعة القاهرة، وتحتاج إلى طريقة مبتكرة للامتحانات تُعمم على مستوى جميع كليات الجامعة، بحيث يتم توجيه ضربة قاضية لهذه الصناعة الخبيثة، التى شوهت الجامعة وقللت من قيمة العلم، وحولت الأبحاث والدراسات والرسائل العلمية إلى “مرزقة” وأكل عيش.