يكتسب الفن حقيقته من القدرة على التعبير عن الناس، وتجسيد المشاعر الإنسانية لتصبح صورة جمالية وإبداعية، ويصبح الجمال فى جانبه الإبداعى هو قدرة عمل فنى على بث استجابة عاطفية لقلوب المشاهدين، وهو ما تنجح الأعمال السينمائية فى تحقيقه.
وفترة التسعينيات فى السينما العالمية – خاصة الأمريكية – هى الفترة الذهبية لهوليوود، وشهدت حينذاك أفلاما وملاحم سينمائية عظيمة عنيت بالانتصار للإنسان، وناقشت قضايا داخل الوجدان الإنسانى، وانخرط صناع الفن فى تفسير طبيعة الصراع بين الإنسان والطبيعية، وما يدور في النفس البشرية، والتعرف على طبيعة ما نفكر فيه وما نصل إليه وعرضه سينمائيًا، وكانت بالفعل فترة ذهبية حقًا.
ومن أبطال تلك الحقبة كان النجم الأمريكى الراحل روبن ويليامز (1951 – 2014) الذى قدم أعمالا تسعى لكشف جوانب أكثر إنسانية، وكشف عن الوجه الآخر للحياة الذى نحياها ولا نعرفها، وتطرق إلى الحب والموت، وتكلم عن السعادة والاكتئاب، ودافع عن كل معنى للوجود، رغم ذلك قرر هو فى النهاية أن ينهى حياته.
فى فيلمه “باتش” آدمز” قدم “ويليامز” صورة أكثر إنسانية للطبيب، وجد فيها أن الضحك والفكاهة والصداقة، الوسائل المثلى للعلاج، صوّر الإنسان بهيئته البشرية، وليست بالصورة الأكاديمية الجافة التى يحاول أن يسير عليها البعض، عبّر بذكاء وأداء بارع رؤية مفاداها أن الطبيب البارع بالضرورة إنسان جيد، أو كما يقول نجيب محفوظ فى روايته “الشحاذ”: “الإنسان، إما أن يكون الإنسانية جمعاء، وإما أن يكون لا شىء”.
“باتش آدمز” فيلم مستوحى من أحداث واقعية، عن حياة الطبيب والناشط الاجتماعي الأمريكي “هانتر باتش آدمز” وهو الطبيب الذي رفض الطرق التقليدية للطب، ورأى أن صداقة المريض، وإضحاكه بالتنكر بزى المهرجين في محاولة لجلب الفكاهة للأيتام والمرضى وغيرهم من الناس وسيلة ناجعة للعلاج.
الفيلم أضاف بعدا دراميًا عما حدث فى حياة “آدمز” الحقيقة الذى لا يزال ينظم رحلات دورية لمجموعة من المتطوعين من مختلف أنحاء العالم للسفر إلى دول عدة، ويتنكرون كالمهرجين في محاولة لجلب الفكاهة للأيتام والمرضى وغيرهم من الناس، كذلك اعتمدت المادة الدرامية على علاقة الحب الكبيرة بين “باتش” وحبيبته “كارين” زميلته فى الكلية، قبل أن تقتل على يد أحد المضطربين نفسيًا، لكن فى الواقع أن من قتل أحد أصدقائه المقربين (كان رجلاً)، وفي السنة الأخيرة في كلية الطب قابل ليندا المتطوعة فى العيادة، بعد فترة وجيزة أسس آدمز وليندا وأصدقاؤهما المعهد الذي استمر كمستشفى حر لمدة 12 عامًا، تزوج آدمز من ليندا عام 1975 وأنجبا ابنين ثم تطلقا عام 1997.
الفيلم من إنتاج عام 1998، إخراج توم شادياك، تأليف باتش آدمز ومورين ميلاندر، ومن بطولة روبرت ويليامز (باتش آدمز)، مونيكا بوتر (كارين)، دانيال لندن (ترومان) بوب جونتون (العميد دين والكوت)، وتم ترشيح مارك شايمان مؤلف موسيقى الفيلم التصويرية، لجائزة الأوسكار لأفضل مقطوعة موسيقية أصلية.
تدور أحداث الفيلم حول “باتش” الذى حاول الانتحار بسبب ظروف الحياة القاسية، مما يجعله يقدم على دخول مصحة نفسية، وحينها وجد أن استخدام الفكاهة بدلاً من العلاج النفسي المتمحور حول الطبيب، يساعد بشكل أفضل زملائه المرضى ويوفر له هدفًا جديدًا في الحياة، لهذا السبب، أراد أن يصبح طبيباً، وبعد عامين التحق بكلية الطب بفيرجينيا (المعروفة الآن باسم كلية الطب بجامعة فرجينيا كومنولث) كأقدم طالب في السنة الأولى.
شخصية الطبيب لم تكن جديدة على روبن ويليامز، الذى قدمها من قبل في فيلمه الشهير “Awakenings” أو (الإيقاظ) عام 1990، مع النجم روبرت دى نيرو، حين جسد دور الطبيب مالكوم ساير، الذى يحاول علاج مريض “روبرت دى نيرو” مريض بالشلل الدماغي منذ العقد الأول من عمره، ويحاول إيجاد طريقه جديدة فى علاجه، طريقة ترى أن الحب واللهو والصداقة والجنون كلها أمور يحتاجها الإنسان قبل الدواء الكيميائي أحيانًا، وأن العلاقات الإنسانية ضرورية كي تكتمل الحياة.
فى فيلم “الإيقاظ” كان الدافع وراء سعى الطبيب “ساير” هو علاج مريض مصاب بالشلل الدماغي، اعتقد أن العاطفة وسيلة لعلاجه، أما فى “باتش آدمز” كانت الفكاهة والحب والصداقة وسائل “روبن ويليامز” وراء سعيه لإيجاد طرق علاج أخرى، غير الطرق التقليدية الجافة.
التحول الكبير فى حياة “باتش آدمز، بدأ من المصحة النفسية، وبينما هو يحاول أن يجد علاجًا نفسيًا لنفسه بعدما قرر أن يتخلص من حياته، وجد نفسه يجد طريقًا جديدًا، يرسم له مستقبله، وجدها فى مساعدة الآخرين، من خلال زميله النزيل فى نفسه الغرفة، المريض بالفصام واضطراب التفكير، ويرى أشياء غير موجودة.
فى أحد المشاهد وربما أكثرها محورية (Master Seen) كان رودى (مايكل جيتر) رفيق “باتش” فى غرفته بالمصحة، يخرج أصواتًا مزعجة فى الليل ما قلق نوم “باتش” الذي طالبه بالهدوء، لكنه رد عليه أنه يريد أن يدخل الحمام لكنه يخاف السناجب، هنا تعامل مع الأمر بروح مرحة، وجسد بيده “وضع المسدس” وأن يقتل السناجب، وانقلب الغرفة رأسًا على عقب، فى مطاردة السناجب غير الموجودة، لكنه رأى أنه بالاستماع إلى زميله “المريض” والتعاطف معه إنسانيًا، والتعامل مع الأمر بروح الفكاهة، لتنجح الوسيلة فى دخول “رودى” الحمام، والتخلص من خوفه من السناجب.
خرج “آدمز” من المصحة وعلى الفور اتجه إلى كلية الطب فى فرجينيا، وجد “آدمز” ضآلته، هناك يمكنه تعلم علوم الطب، وهناك أيضًا تعامل بشكل مباشر مع حالات مختلفة، وهناك أيضًا وجد الحب، وعرف معنى آخر للحياة، وتأكد تمامًا أن الحياة ليست بالمثالية التى يراها البعض.
مع دخول “آدمز” الكلية اصطدم بالواقع المرير، وأن الأطباء يتعاملون وفق قواعد ولوائح صارمة تمنع من التواصل إنسانيًا مع المرض، واصطدم بقواعد العميد دين والكوت (بوب جونتون)، الذي يرى فى تواصل الطبيب مع مريضه بشكل إنساني يفقد من هيبة ووقار مهنة الطب، وحاول أن يثنى “آدمز” عن محاولته الترفيه عن المرضى والتواصل معهم، بمنعه من دخول المستشفى، وفشلت جميع محاولته حتى أن قرر فى النهاية حرمانه من التخرج ومن ثم عدم منحه صفة طبيب.
الفيلم حاول تقديم رؤية بأن الطب ليس مهنة الحماية من الموت، لأنه واقع لا محالة، وأن الأطباء ليست وظيفتهم تأجيل هذا الواقع فقط، بل عليهم تحسين الصحة وحياة الشخص النفسية بشكل عام، وحاول “ويليامز” من خلال دوره توصيل رسالة مفادها أن العلاج بالفكاهة أفضل كثيرًا من العلاج دوائيًا أو جراحيًا.
وتعرض الفيلم لفكرة الصدمة وأن النجاح يولد من قلب المعاناة، فـ”آدمز” الذى حاول الانتحار فى البداية، تحول من خلال تجربته فى المصحة النفسية، إلى ذلك الطبيب الشغوف بصحة الآخرين، وافتتح مركزًا للعلاج مجانًا، وصاحب نظرية الاهتمام بنفسية الطبيب والتقرب منه إنسانيًا أولًا وقبل كل شيء.
الصدمة الأكبر التى طرحها الفيلم، وهى على عكس القصة الحقيقية كما ذكرنا سالفًا، كانت بمثابة مفترق طرق فى حياة “باتش آدمز”، مقتل حبيبته “كارين” الفتاة الملتزمة، التي رفضت محاولاته جميعها للتقرب منها بسبب آلامها بالدراسة والتحصيل العلمي، لكنها أحبته بعدما وجدت أن تصرفاته “البلهاء” في نظر من حوله ليست سوى طريقة للعلاج، وآمنت بطيبته ورسالته الإنسانية التي يقدمها، وتبنت معه تأسيس مركزه المجاني للعلاج، قبل أن تقتل على يد أحد المضطربين نفسيًا.
“باتش” كان يرى الحياة بمثالية كبيرة، وآمن أن الخير لا يقابل بشر مطلقًا، قبل أن يفاجئ بمقتل حبيبته على يد مريض حاول باتش مد يد المساعدة له مرارًا رغم تحذير “كارين” وشكها فى سلوكه، وكاد بعد أن فقد حبيبته وأقرب إنسان له، أن يتخلى عن مبدأه، وأن يكفر بالأفكار الإنسانية التى طالما آمن بها.
ربما كانت من المشاهد المحورية الأخرى أيضا فى فيلم، هو وقوف “آدمز” أمام منطقة جبلية خضراء، وهو المكان إلى مصحته الذي طالما حلم بها مع حبيبته “كارين”، محدثًا السماء، ووجد فراشة تقف على حقيبته التي أعدها لمغادرة مركزه الطبي والتخلي عن أحلامه، فشعر وكأنها رسالة للتغيير وأمل جديد فى الحياة، ومن هنا عاد “آدمز” للدفاع عن حلمه واستكمال طريقه، ويكمل ما بدأه مع حبيبته “كارين”.
فى النهاية اثبت العمل أن الأفلام الإنسانية تعيش وتظل في الذاكرة خالدة في الوجدان، وتجعل كاتبا بعد مضى أكثر من 23 عاما على إنتاجه يجده صالحا للكتابة، وبنفس شغف المشاهدة الأولى.
بقلم محمد عبدالرحمن