موقع مصرنا الإخباري:
لم تكن المشاهد الطبيعية الخلابة فى ريفنا المصرى الغض الندى، بخضرتها وبهاء منظرها مجرد أمكنة وبشر، بل كانت فضاءات رحبة تتصل بها الأرض والسماء، ورغم ما كان يعلوها من طبقات ذلك الصمت الرهيب، والفقر والعوز ونكد العيش تحت مقصلة الحكام الذين تعاقبوا على حياتنا فى بدايات القرن العشرين، إلا أن الريف كان بمثابة لوحة بهية زاهية الألوان، تتفاوت فى درجاتها الجمالية لتحمل دلالاتها مراحل الحياة كلها من لحظات الميلاد وحتى نهايات الموت والفناء.
فى ريفنا الذى كان كانت العين تسرح فى تأمل مريح عبر الوديان الخضراء والجداول التى تلمع بفضة ليلة مقمرة، أو على أثر انعكاس أشعة الشمس الذهبية فى نهار عفى مفعم بالنشاط والحيوية على سنابل القمح والأرز والشعير و”كيزان” الذرة فى عز نهار فتى، فتبدو قاسية على رقاب البشر فى ساعات النهار، حانية على أرزاقهم فى لحظات الحصاد وجنى الثمار، وما أجمل تلك الحقول اليانعة بالخضرة التى كانت تلامس سقف السماء فى نهاية الأفق البعيد، بينما الشمس تلملم خيوطها القرمزية فى رحلة الوادع الأخير، معلنة نهاية يوم من الشقاء والتعب فى رحلة الحياة اللذيذة.
اقرأ ايضاً: أحمد إبراهيم الشريف يكتب… خديجة لا تغلقي الباب.. يوم الأرض الفلسطيني
وظلت الحياة فى ريفنا تسير بإيقاع بسيط رغم كل أنواع الظلم والظلمات تارة من آثار الاستعمار أو بقايا دولة الخلافة العثمانية حتى وصلنا إلى نهاية القرن العشرين، حيث كانت القرية المصرية بحق هى كالمرأة الفاتنة تستحق أن تطرى ويتغزل المرء بجمالها وفتنتها، لذلك نرى كثير من الروائيين الكبار قد برعوا فى وصف طبيعة بلدانهم وقراهم بمشاهدها الساحرة بغية الافتخار بها، وتعريف الناس بمزاياها الخلابة، رغم ما يعلوها من صمت علوى سماوى يتناغم مع أعذب الأصوات القادمة من هدهدات أعشاش العصافير، وطنين النحل، وخفقات الريح، وتموجات النسيم مع إشراق الشمس وروعة الضياء فى بديات صباحات ندية.
حين أنبش أنا وغيرى من الفلاحين الذين سكنوا الريف فى الستينيات والسبعينيات وحتى نهاية الألفية الثانية فى الذاكرة يحضرنى الآن: كيف كانت الخليقة كلها تجلس إلى مائدة واحدة يلتفون حول “طبلية خشبية” لتناول وجبات الإفطار والغداء والعشاء، عندما تحين الساعة والجود على قدر الموجود الذى يكفى البيت وعابر السبيل، والذى كانت تتبارى الحناجر فى دعوته للمشاركة فى الطعام، وفى كثير من الأحيان كان ينشر غطاء المائدة الكبير نفسها فوق الأرض الخضراء المفروشة بالرضا والقناعة.
كان لكل كائن على وجه البسيطة طعامه أو علفه، فتجد اليمامة حبات من القمح أو الشعير، وتجد الحمامة ذرة بيضاء، وحتى الذبابة نقعيات، وذو المنقار ذبابا، وتهجع العصافير فى الصباح من أعشاشها لتخترق بطن السماء بخفة ورشاقة لتصل إلى أبعد الحقول عائدة بحوصلة عامرة بالخير.
لقد وصل الحال بريفنا إلى أننا اليوم نسير فى نفس الدروب الملتوية، نلامس الذاكرة الحية فى محاولة لاستعادة مشاهد جداران البيوت فى الحارات القديمة بطرزها الطينية ذات الملمس الناعم، والتى كانت تغمرها البهجة، قبل أن تزحف العولمة عليها فتحيلها كتل من ركام خرسانى خشن، وتحيل الوديان الخضراء إلى خرائب شائهة المنظر، وتقلب الصمت ضجيجا وصخبا على إيقاع الفضائيات التى حولت ليل الفلاح البسيط إلى نهار مشحون بالرغبة والغريزة والاستلام اللذيذ لنواعير برامج “التوك شو”.
ناهيك عن وصلات النت التى فضت بكارة القيم والعادات والتقاليد، بعد أن أصبح الفلاح البسيط مواطنا كونيا بفعل الرغبات المتوحشة، وتحت تأثير الدردشة عبر الشات المفتوح ليل نهار، والتى جعلت كل الشباب العرب بفعل اضرارى (أنثى female) لدواعى المغامرة والفوز فى مارثون الجنس المفتوح عبر ذلك الفضاء التخيلى على مصراعيه، منتهكا براءة تلك الليالى الخوالى.
وهنا يبرز السؤال: هل يمكن أن يعود بنا الزمان إلى الوراء مرة ثانية، أو يأتى يوم يشعر فيه القروى منا بدفء ذات المكان؟ أم أن الأمر أصبح فى خبر كان؟
أغلب الظن أن عجلة الحياة لا يمكن أن تتوقف ولو لحظة واحدة عن دورانها اللاهث وسط ذلك الصخب والضجيج الذى اعتدناه فى حياة المدن القاتلة، تلك التى تخلو من لحظة تأمل عفوى فى قلب تلك الفوضى العارمة، وستظل الحياة فيها تدور مثل رحى لا تتوقف عن ذلك النحيب بفعل تتابع العام تلو العام دون جدوى، خاصة أن الفلاح المصرى الذى اشتهر بكرمه منذ القدم، وظل يعتمد على ما لديه من مقومات أصبح الآن يشارك المدن فى أزماتها، بعد أن أصبح يأكل من يد غيره، إلا أن يقينى الراسخ يؤكد أن جهود الدولة الحالية عبر مشروع تطوير الريف المصرى تستطيع أن تعيد الروح فى ريفنا المصرى الغض الندى من جديد حيث كانت القناعة والرضا زاد للجميع، وكانت القلوب صافية من الغل والحقد والكراهية، ولم تعرف الضغينة يوما طريقها أبدا مهما كانت المصائب والنوائب، ولم لا وقد بدأت تلك القلوب تعتمر الآن بالحب والإيثار، ومساعدة الآخرين، حتى وإن كانوا فى مكان ناء بأقاصى القرية، عبر قوافل الخير من “حياة كريمة” وغيرها من جمعيات المجتمع المدنى التى تتسابق حاليا فى المساهمة الفاعلة لتطوير حياة الريف المصرى على مستوى تفسر الخدمات الأساسية “مياه – صرف صحى – تعليم – خدمات صحية” وغيرها مما وضعته الدولة فى خطتها للارتقاء بالريف المصرى.
ولا أحد ينسى ذلك المنظر المألوف والنبيل عندما كان الناس يتجمعون قبيل مدفع الإفطار فى رمضان، يتسامرون فى كل ما هو خير للجميع، وكانوا يتراصون فى المساجد ليلا، القلوب كما الأجسام فى بنيان واحد، أما الآن وبعد التنافر الذى عنوانا حيا لملامح القرية المصرية، بدأت تلك الظواهر غيرها تعود من جديد وعادت معها كل أواصر المحبة وجسور الأمل التى كانت مقطوعة، بفضل بث روح الأمل من جانب الرئيس فى نفوس الفلاحين.
وهنا أتوقف بقدر من الفخر أمام ما قاله رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى، أن هذه المشروعات القومية الكبرى التى تنفذها الدولة المصرية لم تأت من قبيل المصادفة أو الفكر التلقائي، ولكن كانت جميع هذه المشروعات نتيجة للأخذ بذات الفكر المنهجى العلمى الذى اتبعته العديد من الدول النامية، التى تشابهت ظروفها مع ظروف مصر، وحققت خلال العقود الأربعة الماضية طفرة وتنمية هائلة، مثل دول شرق آسيا، والتى بدأت بوضع رؤية شاملة للتنمية لديها، تترجمها على الأرض والخرائط إلى مُخطط إستراتيجى، وهذا المخطط تُنفذه الدول من خلال مجموعة من المشروعات القومية العملاقة، مؤكدا أن هذا ما بدأته مصر من خلال وضع رؤية مصر 2030، بمجرد تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى المسئولية فى منتصف 2014، والتى كان لها مستهدفات واضحة.
إذن مستهدفات رؤية مصر 2030 تتضمن الارتقاء بجودة حياة المواطنين المصريين، ليكون هناك عدالة فى توفير الموارد واندماج بين الريف والحضر، فدائماً كان الريف يعانى من العديد من المشاكل، بالإضافة إلى العمل على إيجاد اقتصاد تنافسى ومتنوع قائم على المنافسة والتنوع والتحول الرقمي، وأن تحقق مصر بحلول عام 2030 مكانة كبيرة بين أكبر 30 دولة حول العالم، وتكون حياتنا قائمة على المعرفة والابتكار والبحث العلمى كركائز أساسية للتنمية، وتطبيق مبادئ الحوكمة لمؤسسات الدولة المصرية والقطاع الإداري، تماشياً مع الانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة، لافتا إلى أن ذلك كله سيحدث فى الوقت الذى نحافظ فيه على الأمن والسلم المصرى كأحد أهم مقومات عملية التنمية واستدامة الاستقرار .
أجمل ما فى هذا المخطط أنه يسير فى اتجاهين متوازيين، فى ذات التوقيت، الاتجاه الأول هو زيادة الرقعة المعمورة لاستيعاب الزيادة السكانية التى تشهدها مصر، والاتجاه الثانى هو تطوير العمران القائم، لتحسين جودة الحياة فى الريف والحضر، ولأجل تحقيق ذلك كان علينا الدخول فى حجم هائل من المشروعات، وهنا أوضح رئيس الوزراء أنه لدينا أكثر من 31 ألف مشروع سواء تم تنفيذها، أو جار تنفيذها، وسيتم الانتهاء منهم خلال السنوات الثلاث سنوات القادمة، تتجاوز تكلفتها الاستثمارية 5.8 تريليون جنيه، تم إنفاق 3 تريليونات بالفعل، حتى هذه اللحظة، ولدى الحكومة التصور الكامل لاستكمال هذه المشروعات على مدار السنوات الثلاث القادمة، كى نحقق رؤية وهدف رئيس الجمهورية التى قالها بمنتهى البساطة “مش عاوز حاجة غير إن بلدى تكون حلوة “.
كلام الرئيس يؤكد أن الحب لا يباع ولا يشترى كى نمنحه لتلك القرية التى ظلت واقعة تحت الظلم والإهمال طويلا، لكنه عقيدة راسخة رسوخ الجبال فى فى عقل وقلب الرئيس، حتى يقف الريف من جديد وتعود القرية المصرية مضرب الأمثال فى الأخلاق والفضيلة والتلاحم والأمان والكرم واحترام الكبير والعطف على الصغير، وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج .. رحم الله زمنا كنا نتعامل فيه بحب وإخلاص، دون أذى، فلا تجد بيننا جائعاً أو محروماً، ويبقى علينا الآن غرس قيم الحب والصفاء والتسامح فى نفوس الأبناء حتى تعود “أخلاق القرية”، وينعم أهلها ببركات من السماء والأرض.