موقع مصرنا الإخباري:
في عام 1953م، حصل “ونستون تشرشل” رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وأحد أبرز قادة الحرب العالمية الثانية على جائزة نوبل في الأدب، عن مجمل كتاباته الإنسانية والتاريخية، والمعروف أنه كان كذلك رساماً موهوباً ترك خلفه قرابة الخمسمائة بورتريه.
بعد عشر سنوات، كان الرئيس الفرنسي الأسبق “شارل ديجول” ضمن القائمة القصيرة لجائزة نوبل في الأدب عام 1963م، فكان هذا مصداقاً لعبارته الشهيرة:
“لا تسلني أي كاتب أثر في، فالأسد لا يُسأل أي الحملان ساهم في تكوين جسده أكثر من غيره، وقد قضيت عمري في القراءة”! على الجانب الآخر من المحيط، ستجد على جبل روشمور في الولايات المتحدة حفر عملاق لرأس “تيودور روزفلت”، الرئيس الأمريكي الأشهر والكاتب المرموق الذي خلف عدة كتب في التاريخ وأدب الرحلات.
ولماذا نذهب بعيداً؟ لنعد شرقاً! ألم يكتب الزعيم الراحل “جمال عبد الناصر” رواية “في سبيل الحرية” وهو طالب في المرحلة الثانوية؟ كما كان محرراً لصحف الحائط في مدرسته، فضلاً عن تسجيل شائق ليومياته في حرب فلسطين، وكتاب “فلسفة الثورة”؟ (البعض يخلط بين كتابة عمل فكري مثل فلسفة الثورة، بمعنى نظم الأفكار وترتيبها وعرضها، وبين ضبط الصياغة الذي قام به أستاذنا الراحل “محمد حسنين هيكل للكتاب).
كذلك تحدث “عبد الناصر” عن دور رواية “عودة الروح” وبطلها “محسن” في إلهامه فكرة ثورة يوليو. أما الرئيس الأسبق “أنور السادات” فقد كتب عشرة كتب كان أولها في 1953م، وهو كتابه “القاعدة الشعبية”، وكان منها كتابه “يا ولدي هذا عمك جمال” في 1956م، وكان آخرها ثلاثة كتب وهو في الرئاسة ختمها بكتابه الأشهر “البحث عن الذات” في 1978م. ولو توغلنا في الاتجاه شرقاً وصولا إلى الهند، فسنجد في رسائل الزعيم الهندي الأشهر المهاتما “غاندي” أسلوبا أدبيا رائعاً، فضلا عن نزعة فلسفية عميقة.
أما الزعيم الهندي المعاصر له وتلميذه “جواهر لال نهرو” فكان كاتبا مرموقا ترك تسعة إصدارات في التاريخ العالمي والهندي والثقافة الهندية، فضلا عن السياسة والحرب! فهل هذه حالات فذة واستثنائية؟ أما أننا فهمنا “عصر التخصص الدقيق” فهما مغلوطاً؟
المقصود بعصر التخصص أن العلوم قد نمت بالتراكم المعرفي عبر العصور، ففي زمن “ابن سينا” كان بوسعك أن تكون طبيبا وجراحا يعالج كل ما يعرض للإنسان من أمراض، من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه.
لأن المعارف الطبية وقتها كانت تستلزم الإلمام بكتابات أبوقراط، وجالينوس، وهيروفيلوس الخلقدوني، وسيلزوس السكندري وبعض المراجع الأخرى وحسب! ثم تراكمت المعارف الطبية.
وعرف تاريخ الطب لحظات التحام وانفصال متعددة بين ممارسة الطب العلاجي والجراحة، ومازال الاختصار الذي نطلقه على خريج الطب (M.B.B.S) أو (M.B.B.CH) يشير إلى بكالوريوس الطب وبكالوريوس الجراحة. ثم تراكمت المعارف أكثر وأكثر، وصولاً إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين بدأت التخصصات الطبية في الظهور في الولايات المتحدة، ومازالت تزداد دقة عقدا بعد عقد! فلو عاش “ابن سينا” في زماننا لربما كان طبيبا متخصصا في جراحة العمود الفقري مثلا، وربما لم يكن ليؤلف في الفلك والفيزياء والسياسة كما فعل في زمنه، لكن هل كان التخصص سيمنعه من القراءة فيها جميعا؟ هل كانت موهبته في الشعر والموسيقى ستختفي؟ هل كان ميله الفلسفي سيتبخر؟ لا أعتقد! لو عاش ليوناردو دافنشي بيننا اليوم، ربما لن يصمم آلات لأن تصميمها صار عملية معقدة وتقتضى دراسة متعمقة وتفرغا، لكن هل كان سيكتفي بكونه رساما وحسب؟ أما كان سيهتم بدراسة التشريح والجسم البشري ليحقق التميز في دقة لوحاته التي تجسد أشخاصا؟ أعتقد أن طبيعته الموسوعية كانت ستبقى ولكن بتجليات مختلفة.
فهل ما يمنع الإنسان المعاصر من تعدد الملكات هو التخصص حقا؟ بتقديري أن ما يمنع الإنسان المعاصر من التعبير عن مواهبه وملكاته المتعددة هو الاستهلاك وليس التخصص!
الإنسان المعاصر يفترض أن يعمل في عمله المهني ثماني ساعات، وينام ثمانٍ أخرى، وتبقى له ثماني ساعات للأسرة والحياة والرياضة والقراءة ومختلف الاهتمامات. لكن الثقافة الأمريكية التي انتشرت فأصبحت عالمية تخصص هذه الساعات الحرة في معظم الأحوال للاستهلاك! للاسترخاء السلبي والتلقي! للجلوس على مقعد (Lazy Boy) أمام شاشة نتفليكس، أو شاهد، أو أمام شاشة الموبايل، والتلقي السلبي! هذا النمط بطبيعته قاتل للشغف! لهذا يتعامل علم النفس المعاصر مع مشكلة “وقت الشاشة” تماما كما يتعامل مع مشكلة الإدمان، ويستخدم نفس مناهج تغيير السلوك والإرشاد النفسي للتعامل مع المشكلتين! الدراسة التي أجرتها جامعة كيرنل بالتعاون مع فيسبوك على سبعمائة ألف مستخدم في 2014م، أثبتت الأثر النفسي والمزاجي لحالة التلقي التي نكون فيها أمام الشاشة. هذه الحالة التي نكون عليها أمام الشاشة هي حالة من حالات “الاستهلاك الرقمي”! وهو نمط استهلاكي يدرس حاليا على مستوى العالم كما تدرس كل أنماط الاستهلاك. ولنا في هذا حديث آخر!