كيف يمكن تحقيق الاستفادة القصوى من قرار الجنائية الدولية بتوقيف نتنياهو؟
أشدّ ما يثير حنق الساسة الإسرائيليين اليوم أن “بلادهم” لم تعد “محبوبة” في العالم الغربي، كما لم تعد تمثّل ذلك النموذج اللامع في الأمن والصعود الاقتصادي، مثلما كان الحال طوال العقود السابقة.
ربما من المنطقي أن تخيّم حالة من القلق على الأوساط السياسية داخل “إسرائيل” بعد أن قرّرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا إصدار مذكّرتي اعتقال بحقّ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير الحرب السابق يوآف غالانت، بموجب اتهامات تتعلّق بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة، لكن ما ينتفي عنه المنطق أن يكون ردّ فعل الأوساط العسكرية الإسرائيلية هو مزيد من العدوان والتصعيد الحربي اتكاءً على الدعم الأميركي غير المشروط.
فبحسب القانون الدولي، فإنه يجب على أي دولة وقّعت على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (ICC) اعتقال رئيس الوزراء نتنياهو؛ وتضمّ القائمة 124 دولة، منها 33 من أفريقيا، و19 من دول آسيا والمحيط الهادئ، ومثلهم من أوروبا الشرقية، و28 من دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، و25 من دول أوروبا الغربية ودول أخرى. لكن القائمة لا تشمل روسيا والصين والولايات المتحدة، وكذلك “إسرائيل”.
البيت الأبيض يدرك أن سلامة نتنياهو ليست محلّ تهديد بعد قرار المحكمة، كما أن “الجنائية الدولية” لا تملك ذراعاً لثني قوات الاحتلال عن ارتكاب المزيد من الجرائم، لكن في الوقت ذاته تأثير القرار على صورة “إسرائيل” على المستوى العالمي سيكون سلبياً للغاية، لذا سارع المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض إلى إعلان رفضه القاطع لقرار المحكمة الجنائية الدولية، معتبراً أن المحكمة لا تتمتع بولاية قضائية في هذا النوع من القضايا.
كما توعّد مايك والتز، مستشار دونالد ترامب المُقبل للأمن القومي، بردٍ قوي على “التحيّز المعادي للسامية” للمحكمة الجنائية الدولية بعد تنصيب ترامب في كانون الثاني/يناير، وفي الكونغرس، دعا الجمهوريون بالإجماع إلى فرض عقوبات على المحكمة الدولية، وقال السيناتور النافذ ليندسي غراهام إن “المحكمة الجنائية الدولية تصرّفت بأكثر الطرق سخفاً وانعداماً للمسؤولية”.
أتمّت المحكمة الجنائية الدولية عامها الثاني والعشرين في تموز/يوليو الماضي، وهي مكلّفة بمحاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، ولم تصدر منذ نشأتها سوى عدد قليل من الإدانات، كما تُعدّ هيئة مستقلة عن الأمم المتحدة، من حيث الموظفون والتمويل، وهناك اتفاق بين المنظمتين يحكم طريقة تعاطيهما مع بعضهما من النواحي القانونية، وكثيراً ما يحدث خلط بينها وبين محكمة العدل الدولية، والتي هي ذراع تابعة للأمم المتحدة تهدف لحلّ النزاعات بين الدول.
في ضوء الموقف الدولي المُعقّد، ومحدودية سلطات المحكمة الجنائية الدولية، وبالنظر إلى التوجّه الأميركي الرافض لأيّ نوع من المساس بالمسؤولين الإسرائيليين، إلى حدّ استخدام حقّ النقض “الفيتو” مرة جديدة منذ أيام قليلة لإفشال مشروع قرار في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار بغزة، فإن القرار الأخير بتوقيف نتنياهو وغالانت لن يُحدث فارقاً كبيراً على مستوى ميدان الحرب، لكنّ أثره السياسي والمعنوي كبير وسيتعاظم بمرور الوقت، وهي المعادلة التي وعتها الأوساط الإسرائيلية، وتعاطَت معها بحسب موقعها.
عُزلة “إسرائيل” وانهيار النموذج
أشدّ ما يثير حنق الساسة الإسرائيليين اليوم أن “بلادهم” لم تعد “محبوبة” في العالم الغربي، كما لم تعد تمثّل ذلك النموذج اللامع في الأمن والصعود الاقتصادي، مثلما كان الحال طوال العقود السابقة، فـ”إسرائيل” التي تمّ تصويرها للعالم باعتبارها واحة آمنة لضحايا النازية التي هي امتداد لفترات طويلة من التطرف القومي الأوروبي، باتت الآن في نظر الشارع الأوروبي عبارة عن كيان وحشي متعطّش لدماء الفلسطينيين، وينتهك القوانين الدولية كافة، والإشكال أنه رغم كل هذا الجبروت العسكري، فإن “الجيش” غير قادر على توفير الأمان لـ”المواطنين”، في ظل استمرار فصائل المقاومة في توجيه صواريخها إلى كل بقعة داخل “إسرائيل”، التي باتت تعاني بدورها من تدهور عامّ غير مسبوق.
ضمن هذا السياق، يأتي قرار المحكمة الجنائية الدولية، ليصبّ مزيداً من الزيت على النار، خاصة أن عدداً غير قليل من الدول الغربية أعلنت تجاوبها مع القرار، وامتثالها لتنفيذه، مثل هولندا وبلجيكا وأيرلندا وكندا وإيطاليا. بطبيعة الحال كانت العواصم الغربية، المنطوية تحت لواء الجنائية الدولية، خجولة في إدانة “تل أبيب” أو إعلان دعمها للحُكم بتوقيف نتنياهو، لكن بكل الأحوال، أن تكون مسألة (القبض على رئيس الحكومة الإسرائيلية) بحد ذاتها محل نقاش، فهذا يمثّل مكسباً عظيماً للقضية الفلسطينية، ويجلب لها أنصاراً من دوائر دولية كان محظوراً على العرب الولوج إليها فيما مضى.
حتى الآن لم يتمّ الكشف عن تفاصيل الاتهامات التي أُدين بموجبها المسؤولين الإسرائيليين، وهذا بدوره يدفع الإعلام العبري للتساؤل عن إمكانية اتساع دائرة الاتهامات، لتشمل مسؤولين إسرائيليين آخرين وضباطاً في “الجيش” برتب مختلفة، بالشكل الذي من الوارد أن يجعل المسؤولين الحكوميين والعسكريين الإسرائيليين عُرضة للاعتقال ببساطة عند السفر إلى الخارج، بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية.
كيف يمكن أن يستفيد العرب من قرار الجنائية الدولية؟
منذ أن نفّذت قوات الاحتلال عمليتها العسكرية ضد قطاع غزة، والكيان الإسرائيلي يتعرّض لضغوط من مختلف دول العالم للمطالبة بإيقاف الحرب، وقد استمرّ الناشطون الغربيون في التظاهر لشهور عديدة رفضاً للعدوان، ومن شأن خطوة المحكمة الجنائية الدولية أن تعمّق من عزلة “إسرائيل”، وتؤدي إلى إلحاق مزيد من الأذى بصورتها في مختلف الأوساط الدولية، وضمن تلك المساحة تكون الفرصة مواتية أمام الدول العربية لتوظيف ما يجري بهدف جلب مزيد من الأنصار لصالح القضية الفلسطينية.
لا يمكن إغفال أن قرار المحكمة شمل في بيان آخر مذكّرة اعتقال للقائد العامّ لكتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس محمد الضيف، بتهمة ارتكاب “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”، ذلك رغم أن قوات الاحتلال كانت قد زعمت أكثر من مرة قيامها باغتيال الضيف. على أية حال، فإن هذا الأمر يكشف ما هو معلوم بالضرورة حول عدم انحياز المحاكم الدولية للمقاومة الفلسطينية المسلحة، لكن وقوفها في وجه قادة الاحتلال، من مداخل حقوقية وإنسانية، هو مكسب أكيد.
ويمكن تعظيم الاستفادة الفلسطينية من قرار الجنائية الدولية عبر السبل الآتية:
أولاً، تعزيز الموقف القانوني للشعب الفلسطيني:
يمكن للقرار أن يدعم الجهود الفلسطينية في ملاحقة المسؤولين الإسرائيليين عن الانتهاكات والجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطينيين، مثل الاستيطان غير القانوني، والحصار المفروض على غزة، والاعتداءات المتواصلة.
وفي حال أصبح القرار نافذاً، سيشكّل ذلك سابقة قانونية تتيح للفلسطينيين تقديم المزيد من الشكاوى ضد القيادات الإسرائيلية حتى لو لم تكن قد غادرت موقعها في السلطة.
ثانياً، تأثير دبلوماسي على السياسة الخارجية لحكومة الاحتلال:
من شأن القرار أن يفاقم من عزلة “إسرائيل” دولياً، حيث ستواجه ضغوطاً من الدول الـ 124 التي تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية، كما أنه سيؤثّر كذلك على تحرّكات المسؤولين الإسرائيليين على الصعيد الدولي، حيث سيضطرون إلى تجنّب زيارة دول تعترف باختصاص المحكمة خوفاً من تنفيذ قرار الاعتقال.
ومن المعلوم أنه خلال الشهور الماضية، قامت أكثر من 20 جامعة في أوروبا وكندا بقطع علاقاتها مع المؤسسات الإسرائيلية، كما قرّرت العديد من المعارض التجارية استبعاد الشركات الإسرائيلية، وفي الآونة الأخيرة تم رفض منح دخول وزيرة العدل السابقة، أيليت شاكيد، تأشيرة دخول إلى أستراليا.
ثالثاً، تركيز الضوء على المعاناة الإنسانية للشعب الفلسطيني:
يمكن أن يستخدم القرار لتسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين وجرائم الاحتلال، ما يعزّز الحملة الإعلامية والدبلوماسية الفلسطينية لكسب تأييد الشعوب بشكل أساسي، ما يشكّل ركيزة للضغط على الحكومات.
رابعاً، العمل على توسيع دائرة الاتهام:
قرار المحكمة يعني أنها اقتنعت بأن ما جرى في قطاع غزة هو بالفعل جرائم حرب، تشمل التجويع والتعطيش وحرمان الناس من العلاج، والقتل الجماعي. في هذه القضايا يوجد متهمان كبيران هما نتنياهو وغالانت، ولكن يوجد وسطاء لتنفيذ القرارات. والمنفّذون هم ألوف الجنود والضباط الذين نشروا صوراً في وسائل التواصل الاجتماعي يتباهون فيها بممارساتهم الوحشية ضد الفلسطينيين.
وكل واحد من هؤلاء يمكن اعتقاله بقرار من أيّ محكمة في أيّ دولة يصل إليها، في حال قُدّمت شكوى ضده، ويمكن للهيئات العربية التعاون مع الناشطين والمتطوّعين من مختلف دول العالم لتقديم شكاوى ضد هؤلاء، بحيث يصبح ضباط وجنود الاحتلال مطاردين خارج “إسرائيل”.
خامساً، الضغط على الدول المتعاونة مع “إسرائيل”:
يمكن للعرب الاستفادة من القرار عبر زيادة الضغط على حلفاء “تل أبيب”، خاصة في القارة الأوروبية، لتغيير سياساتهم أو تقليل دعمهم لها، استناداً إلى مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي.
سادساً، تعزيز موقف المقاومة:
فاستناداً إلى تلك الإدانة الدولية لممارسات حكومة الاحتلال، يمكن لوسائل الإعلام العربية التكثيف من حجم المواد المنشورة دفاعاً عن المقاومة وشرعيّة وجودها. فثمة احتلال يرتكب المجازر بحقّ أصحاب الأرض من الفلسطينيين، وبالتالي فإن صور المقاومة كافة، بما يشمل النمط المسلح، هي مقاومة مشروعة ولا بدّ أن تحظى بالقبول الدولي.
المصدر: الميادين