موقع مصرنا الإخباري:
صمتٌ مطبق لا يكسره سوى بكاء خاشع أو صرخة مكلوم، هدوء يغلف المكان بهيبةً ووقار حتى إن لم يظهرا على الحوائط القديمة المتهالكة والشوارع الترابية التى تغطى جوانبها أكوام القمامة، انخفاض الصوت يفرض على زائر المنطقة إجلالاً لها، وسرعان ما يكتشف الزائر أو مريد المنطقة أن الاحترام والإجلال ما هما إلا نفحاتٌ من أولياء الله الصالحين الذين يواريهم التراب خلف مقاماتهم الموجودة وراء هذه الحوائط العتيقة، فالمكان الذى تطأه أقدامٌ قليلة يكتشف من يدخله أنه «بقيعٌ» آخر أسفل جبل المقطم، يسكنه أولياء الله وتفوح بركاتهم فى نسيم هوائه العليل الذى يعطر سماء المنطقة.
هنا فى منطقة الأباجية بمصر القديمة، تدخل النفس فى رحلة بين مقامات الأولياء، التى يجهلها الكثيرون ولا يستطيع من يعرفها دخولها والتبرك بها دون اللجوء لحيل مختلفة، بسبب قرارات الإغلاق تطبيقاً للإجراءات الاحترازية لمواجهة فيروس كورونا، هى رحلةٌ تموج فيها النفس داخل بحر من المشاعر المتضاربة والأحاسيس المختلطة، حيث الفرحة بلقاء الأولياء والحزن على عدم معرفة الأغلبية هذه الأضرحة وأماكنها.
مسجد ومقام ابن عطاء الله السكندري.. رجل جمع بين التصوف والحكمة
بمجرد أن تطأ قدماك مدخل المقابر بالقرب من خلوة السيدة نفيسة فأول ما تهتدى له الأعين هو مئذنة مسجد ومقام ابن عطاء الله السكندرى، وبعد عبور البوابة الحديدية وصعود درجات السلم الرخامى، يجلس إمام المسجد يحكى عن ابن عطاء السكندرى، الفقيه المالكى والصوفى شاذلى الطريقة، وهو واحد من أهم أركان الطريقة الشاذلية الصوفية، (658 هـ/ 1260 م – 709 هـ/ 1309 م)، «اتقال عليه ألقاب كتير منها قطب العارفين وترجمان الواصلين ومرشد السالكين»، هكذا قال إمام المسجد.
لا يعلم الإمام الذى بدأ عمله فى المسجد قبل سنوات أسباب هذه التسمية، لكنه يعلم أنه أحد علماء الدين، وله كتب عديدة أبرزها «الحكم العطائية»، الذى جمع فيه فكرة التصوف وحكمته، ويضم إشارات كثيرة عن التصوف، وتوفى ابن عطاء فى عام 709 هجرية، ودفن داخل ذات مقامه الحالى، ليضم فيما بعد مسجداً ملاصقاً للمقام.
بعبور البوابة الخشبية البنية الكبيرة يكون الزائر داخل المسجد، السقف مزخرف بالرسومات الإسلامية، وفى زاوية بآخر المسجد سياج خشبى، بنى اللون مخصص لصلاة السيدات، به سجادة من ذات الأنواع المتعارف عليها بمساجد القاهرة، ويقود إلى المقام باب خشبى صغير، أبيض اللون، مغلق بالأقفال تنفيذاً لقرار وزارة الأوقاف بغلق الأضرحة بسبب انتشار فيروس كورونا، يقف أمامه المصلون بعد الانتهاء من الصلاة للدعاء ويحدوهم الأمل فى الاستجابة.
مقام العارف بالله شيخ الإسلام تقي الدين محمد
على بعد خطوات من مسجد ابن عطاء الله السكندرى باتجاه اليسار، يقع مقام العارف بالله شيخ الإسلام قاضى القضاة تقى الدين محمد، الذى يتمتع بقبة خضراء اللون، لكنه يحاصره الإهمال والأتربة، فأبوابه موصدة لا تجد من يفتحها، وحوائطه قديمة وألوانها باهتة لا تلفت النظر إليها ولافتة المقام هى الشىء الوحيد الذى يبدو بحالة جيدة فى المقام. رغم أبواب المقام الحديدية الخضراء الموصدة بالأقفال، لكن آيات القرآن تتردد من داخله بصوت واضح، فالقرآن لا ينقطع، يسمعها المارة أو الزوار والواقفون أمام المقام لقراءة الفاتحة.
للإمام تقى الدين نصيب مما ينسب للصالحين من الكرامات، أوردها كتاب «مرشد الزوار إلى قبور الأبرار»، لزين الدين الموفق، ومن أبرز هذه الكرامات حين أساء رجل الأدب معه فى إحدى المرات، وأخبره «تقى الدين»، أنه سيموت بعد 3 أيام فوقع ذلك، وفى حياته خرج أحد الأمراء من مصر، فأخبرهم أنه لن يعود مرة أخرى وهو ما حدث بالفعل.
خلوة السيدة نفيسة.. قبلة الداعيين وملاذ الزوار
ساحة صغيرة تتكدس أمام أبوابها مجموعة من السيدات، يضعن أعينهن بين فتحات الباب، ويتمتمن بكلمات للدعاء والمناجاة، الحوائط صفراء باهتة تخفى هيبة وعظمة المكان، كونها مكان إحدى سيدات بيت النبوة، إنها خلوة السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن السبط بن الإمام على بن أبى طالب -رضى الله عنهم، وهى المحراب الذى كانت تتعبد فيه وأرضها عندما كانت تريد أن تناجى الله بعيداً عن أعين الناس.
المقام كغيره مغلق بسبب تداعيات كوفيد-19، وقامت «الوطن» بمحاولات عديدة، لدخول الخلوة بعد إلحاح شديد للسيدة الخمسينية المسئولة عن المقام بالرغبة فى الدعاء لدقيقة واحدة لأحد المرضى حتى سمحت بالدخول، والخلوة من الداخل عبارة عن غرفة صغيرة حائطها الخارجى من الرخام، أبوابه خضراء، محاط بسياج قصير من الخشب الأبيض يعطى مظهراً جمالياً، وتم تجديد الخلوة عام 1429 هجرية. «أم محمد» سيدة خمسينية هى المسئولة عن الخلوة، حكت قصتها مع الخلوة قائلة إن والدها كان حارساً لها وعاشت داخل المقام طفولتها وشبابها، وتربت فيه، حيث كانت توجد معه باستمرار، وورثت منه حب سيدة بيت النبوة وأكملت مسيرته، رغم زواجها والعيش فى مكان آخر يبعد قليلاً عن الخلوة، وأضافت أنه قبل ظهور كورونا كانت الخلوة لا يغيب عنها الزوار الذين يلجأون إليها لفك الكرب والأزمات، أو لإخراج النذر وتوزيع الوجبات والأطعمة على زوارها.
«أم محمد» تقوم بجانب مسئوليتها عن الخلوة والعناية بها، بإعداد الوجبات المجانية التى توزع على الفقراء، ويحرص بعض المقتدرين مادياً على تزويدها ببعض أدوات الطبخ والطعام لإعداده وتوزيعه على الفقراء كصدقة ومحبة فى السيدة نفيسة، وتابعت: «كل يوم بطبخ.. الأكل بيجيلى، وأنا بطبخه وبيتوزع وكله لأهل الله، فيه باشاوات وناس مهمة بتحب تيجى هنا للزيارة كثيراً، بس كورونا قللت من الزيارات».
على أبواب خلوة السيدة نفيسة، تقف سنية محمد، مسنة تعيش فى إحدى المقابر المحيطة بالمقام، تدعو ببكاء بالنجاة ورفع الكرب، بعد أن أصيبت ابنتها الصغرى بمرض عضال، وجاءت ترجو الله وتشفع سيدة بيت النبوة لرفع البلاء، وهذه لم تكن المرة الأولى التى تأتى فيها للسيدة نفيسة، وقالت: «جيت لما ابنى كان بيسقط فى الدراسة ودعيت وربنا كرمه وبقى ينجح، وبنتى الكبيرة ما كانش بييجى ليها عرسان ودعيت السيدة وربنا رزقها بعدها بكام شهر».
مقام سيدي عبدالله بن ابي حمزة ملجأ الراغبين في الدعاء
يلاصق خلوة السيدة نفيسة مقام سيدى عبدالله بن أبى حمزة رضى الله عنه، الذى يقول عنه سكان المقابر المحيطون بالمنطقة إنه ما وقع نظر أحد على مقامه إلا وجبر خاطره، ولا يقف على قبره شقى إلا وحلت مشكلته وفك كربه، ويتصل نسبه بالصحابى الجليل سعد بن عبادة الأنصارى، وتقول عنه كتب التاريخ إنه موسوعة علمية أفاض الله عليه من علم الحديث النبوى وتفسير آيات القرآن وعلوم الحقيقة والشريعة.
محمد عبدالسلام، رجل سبعينى، وهو حارس مجموعة من المقابر الخاصة ببعض المواطنين والمحيطة بالمقام، يجلس على إحدى الصخور بجانب المقام مرتدياً جلباباً بنى اللون، قائلاً إنه اعتاد رؤية الكثير من الناس أمام بوابة المقام، يتضرعون لحل مشكلاتهم وتقبل دعائهم، مضيفاً: «الناس بتحكى إن مشكلاتهم بتتحل بعد فترة من دعائهم أمام المقام، ورغم انتشار فيروس كورونا وغلق الضريح فإن له زواره الذين يحرصون على زيارته باستمرار وتوزيع بعض الأطعمة بهدف التصدق ورغبة فى الاستجابة لدعواتهم.
مقام سيدي محمد بن سيد الناس.. مغطى بقمش أسود ومصاحفه متاحة للزائرين
باب صغير أخضر اللون، فى الجهة الخلفية لخلوة السيدة نفيسة، ويحيط بالمقام من الخارج عدد من صنابير المياه المثلجة التى وضعها أصحابها بجانبه وكتب عليها صدقة جارية، وفى الداخل مجموعة كبيرة من المصاحف التى يتركها بعض الزوار، وبمجرد الدخول تشم رائحة أعواد البخور التى تظل مشتعلة أغلب اليوم.
خلف المقام غرفة صغيرة يغطيها السجاد الأحمر المتعارف عليه فى أغلب المساجد المصرية، بها ضريح سيدى محمد، المغطى مقامه بقماش أسود اللون، مدون عليه عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وتعلوه المصاحف المفتوحة التى تركها الزائرون لغيرهم الراغبين فى قراءة القرآن فى الضريح، وخلفه زاوية لتحديد اتجاه القبلة، وبها لوحات مدون عليها أسماء الله الحسنى.
فتـح الدين محمد بن محمـد بن محمد بن أحمد بن سيد الناس، هو الفقيه الشافعى، أندلسى الأصل من إشبيلية وولد فى مصر سنة 671 هـ وكان حافظاً بارعاً وأديباً بليغاً حسن المحاورة، أخذ علم الحديث عن والده وابن دقيق العيد ولازمه سنوات كثيرة وتخرج على يده وقرأ عليه أصول الفقه، وله مدائح حسان فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إماماً فى الحديث، وفقاً لكتاب مرشد الزوار إلى قبور الأبرار.
يعلوها بيتين شعر ولافته باسم صاحبها.. مقامات السادات والوفائية
بمجرد الخروج من مقام سيدى عبدالله والسير فى الطريق الذى تغطى جنباته القمامة والحجارة وبقايا فروع الأشجار، نصل إلى مبنى يبدو عليه أنه تاريخى، فحوائطه عتيقة، كتبت عليها كلمات ورسمت بها نقوش محاها الزمن بمرور سنواته الطويلة، ولم يبق منه إلا علامات لا تدل على جملة واضحة، تقف أمامه سيدة وجهها يبدو عليه الشحوب، ظهرها محنى وكأن كثرة الهموم هى السبب فى ميله، اسمها بهيجة إمام، وبمجرد سؤالها عن المقام أشارت إليه وقالت: «روح ادعى أنا لسه خارجة من هناك، نادى على العامل وراضيه هيفتحلك»، فسكنها فى منطقة السيدة عائشة ساعدها فى الالتزام بالزيارة فى موعدها المحدد كل يوم سبت».
20 جنيهاً لزوجة العامل كانت كفيلة بفتح أبواب المقام المغلق بسبب تداعيات فيروس كورونا، الباب الخشبى للمقام مصنوع من خشب الجوز، ومصفح بصفائح من النحاس الأصفر بكل منها حلقة من النحاس، ويعلو الباب بيتان من الشعر منقوشان على الإطار الجبسى، نصهما: «باب شريف قد رقى ببنى الوفا بالحق فيه أفضل الأقطاب»، والثانى: «قالت لنا أنوار سر جنابه … لا شك هذا أكمل الأبواب».
فى الداخل ساحة فسيحة بها عدد من أولياء الله الصالحين من السادات الوفائية، كل مقام محاط بسياج خشبى به فتحات للنظر إلى الوالى الصالح، وعلى كل منها لافتة تحمل اسم صاحبها وجزءاً من سيرته وحياته لتعريف الزوار به، تروى زوجة العامل أنها تعيش هنا معه منذ سنوات، ويحرص الناس على زيارة المقام وقراءة الفاتحة، رغم غلق المقام بسبب كورونا، فإن الزوار ما زالوا حريصين على الزيارة، وقالت زوجة العامل: «فيه ناس زيارة الأولياء جزء من حياتهم، بييجوا هنا كل أسبوع لقراءة الفاتحة وتوزيع الصدقات على المحتاجين».
تحكى زوجة العامل التى رفضت ذكر اسمها خلال زيارة المقام، أن إجراءات الغلق رغم تداعيات فيروس كورونا لم تمنع الزيارات للمقام، خاصة بين سكان المنطقة والمناطق المجاورة، وتابعت «حب آل البيت يتولد فى القلب، واللى اتعود على زيارتهم ما بيقدرش يبعد كتير وبيفضل مشتاق لهم».
سيدى محمد وفا، هو القطب الكبير ابن محمد الأوسط بن محمد النجم رضى الله عنهم، ولد فى مدينة الإسكندرية سنة 702 هجرية، ونشأ منذ نعومة أظافره ورعاً تقياً، محباً للعلم، وسلك طريق الشيخ أبى حسن الشاذلى، له العديد من الكرامات منها ومن أبرزها وفاء النيل وزيادته بسبب دعائه لله، والتى كانت سبباً فى تلقيبه بـ«وفا»، أما عن سبب تسمية أولاده وأحفاده بالسادات فهو لما لهم من عز قديم فقد ينتمى نسبهم إلى الإمام حسن بن على كرم الله وجهه من زوجه البتول الزهراء بنت سيدنا محمد «صلى الله عليه وسلم»، حسب كتاب مرشد الزوار إلى قبور الأبرار.
مقابر السادة الدومية الخلوتية.. أشخاص اختلوا بأنفسهم وانقطعوا الله بالعبادة
طريق ضيق، أرضه ترابية غير مستوية، تحيط به من الجانبين مقابر فى حالة متدهورة، تجعله أشبه بمضمار سباق سيارات، نادراً ما تطأه قدم غريبة عن سكان المكان، وبعد خطوات قليلة من الدخول إليه تظهر عدة مبان، وبالنظر إلى اليمين يتجلى مسجد «السادة الدومية الخلوتية»، ببابه الخشبى القديم المغلق دائماً، وواجهته الرخامية التى تميل للون الأبيض، وبالالتفات إلى اليسار يظهر سور أحمر يعلوه شريط طويل من الصاج ذو لون أخضر، يخفى معالم المدافن الخاصة بـ«السادة الدومية الخلوتية»، وعلى بابه لافتة مكتوب عليها، «خاص بأبناء الطريقة فقط».
الطريقة الخلوتية هى إحدى الطرق الصوفية فى مصر، التى تعنى الانقطاع لله بالعبادة عن طريق الاختلاء بالنفس والعزلة والتفرغ للعبادة، ويتخذ عدد من أتباع الطريقة الخلوتية الصوفية هذا المسجد مزاراً لهم، ولفترة قريبة من الزمن كانوا يعتكفون به فى العشر الأواخر من شهر رمضان، وهنا يوجد الشيخ شاهين المحمدى، أحد أبرز شخصيات الخلوتية، حيث وُلد بمدينة تبريز بإيران فى القرن التاسع الهجرى، وأمضى فى فارس طفولته ومعظم شبابه ثم رحل إلى مصر فى عهد السلطان الأشرف قايتباى، واشتراه السلطان وأصبح من مماليكه وانتظم فى جنده، ولكن حياة المماليك والجندية لم توافق مزاج شاهين ولا طبيعته التى فُطر عليها.
طباع شاهين كانت تميل للانطواء، يحب العزلة ويطمئنُ إلى صحبة الفقهاء ورجال الدين، فحفظ القرآن والكثير من الأحاديث سواء فى بلاد فارس أو مصر، وطلب من السلطان قايتباى أن يسمح له بحياة التصوف والعزلة والعبادة فسمح له، حسب كتاب اللآلئ السنية فى أوراد الطريقة الدومية الخلوتية.
على بعد أمتار قليلة من المقام يجلس سيد على، 63 عاماً، يعيش فى إحدى المقابر، ويحكى أن المنطقة تتمتع بالكثير من الروحانيات، والزيارة لا تقتصر على سكان المنطقة أو البسطاء فقط، بل هناك الكثير من الزوار الذين يأتون من خارجها للزيارة، فهناك أشخاص يأتون بسيارات فارهة لتوزيع الصدقات والزيارة، ولكن أغربهم من وجهة نظره رجل سبعينى يأتى من محافظة الإسماعيلية، وعنه قال: «الراجل ده بييجى كل ليلة رأس سنة هجرية يوزع فطائر بيقول إن مراته وبنته بيعملوها وبييجى بدرى يوزع على أهل الله».
مياة مثلجة وحلوى وكتب دينية.. نفحات مسجد ومقام سيدي عمر بن الفارض
طريق طويل بين مقابر البُسطاء والأغنياء على حدٍ سواء، يميناً ويساراً، يقطعه المريد سيراً على الأقدام للوصول إلى مقابر «ابن الفارض»، ووسط ساحة كبيرة يظهر المسجد الذى يرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر بجانب مجرى سيل قديم، السكينة والهدوء يتصدران المشهد حول المقام ويغلفان المكان، وكأنه خلوة حقيقية لمن يُريد التقرب، حوائطه أثرية باللون الأبيض، وبابه خشبى بنى اللون مغلق من الداخل، تعلوه قبة صغيرة زخارفها ناتئة، شبابيكه طولانية وصغيرة، وبه لافتتان رخاميتان من اللون الأبيض تحملان اسم ومقام سيدى عمر بن الفارض.
فور طرق أبوابه يفتح المسئول عن المسجد ويسمح بالزيارة، فى الداخل، تمتد ساحته الرُخامية البيضاء أمام المقام، وتنقسم بوابته إلى قسمين؛ أحدهما مخصص للرجال، وآخر للنساء. فيما يقع الضريح بينهُما، وعقب دخول المسجد يرفض العامل أى حديث معه لكنه يسمح بالاختلاء مع المقام، ويقدم للزائر زجاجة مياه مثلجة وطبقاً من الحلوى وبعض الكتب والمجلات الدينية المعتمدة، ويتركه للمناجاة داخل المقام.
الضريح المدفون أسفله عُمر بن الفارض سنة 632 هجرياً، يقع فى مُنتصف المسجد، ويرجع تاريخه إلى عهد السلطان برقوق، فهو عُبارة عن غرفة مربعة الشكل، حوائطها حديدية حتى تسمح للزوار برؤية المقام، تنبعث منها روائح المسك، ومكونة من 4 عقود تقوم عليها قبة حجرية غير مرتفعة، وتمت زخرفة أركان العقود بمجموعة من المقرنصات، وعليها شريط من آيات الذكر الحكيم.
سيدى عمر بن الفارض دخل فى بدايته مدرسة، بديار مصر، فوجد شيخاً فقال له: «يا عمر. يفتح الله عليك»، فجاء إليه وجلس بين يديه، وقال يا سيدى: «فى أى مكان يفتح الله علىَّ؟ قال يفتح الله عليك بمكة»، فقال «وأين مكة يا سيدى؟» فدله وأشار عليه، فرحل إليها ومكث بها 15 سنة، ثم عاد إلى الجامع الأزهر وذاع صيته بين العلماء والحكام والأمراء، وبعد أن اشتغل بالفقه ورواية الحديث، حُبب إليه الخلاء وأحب الصوفية، زهد واستأذن والده فى السياحة، فساح فى الجبل الثانى فى المقطم وآوى إلى بعض أوديته ثم كان يعود ثانية، وفقاً لكتاب «كفاية المعتقد» لأبى محمد الجوينى.
على بعد أمتار قليلة من بوابة المسجد تجلس «فتحية»، وهى سيدة خمسينية أحد سكان المقابر المجاورة للمقام، وبمجرد سؤالها عن «ابن الفارض» تروى سيرة الرجُل الصالح، الذى جاءً من سوريا إلى مصر، وتحدثت عن كراماته العديدة التى يعرفها كافة سكان المنطقة، بنبرة لا تخلو من الحماس، وأضافت: «بتدخل تدعى ومشكلاتك تتحل، الراجل سيدنا عمر ده بركة فعندما أتعرض لضائقة مالية أدعو أمام مقامه حتى تنفرج»، كما أنها كانت شاهدة على محنة جارتها التى حُلت مشكلتها بعد ليلة من الدعاء أمام المقام.
وتتحدث «فتحية» عن المُحبين والمريدين الذين يأتون سعياً إلى مقام عمر بن الفارض من كل صوب، فرغم وقوعه فى منطقة بعيدة وتتطلب جهداً فى الوصول إليها، فإن زواره لا ينقطعون عنه أبداً رغم أزمة كورونا، ويأتون يرددون الدعوات أمام مقامه، ويتمسحون ببركاته ويضعون النذور فى صندوق خشبى قديم، أو تتكفل الورود والشموع بإنهاء مراسم الزيارة.