يتباين الأداء التمثيلى بتباين مناهج التمثيل، فمنها ما يركز على تجسيد الصفات الداخلية الشعورية باعثا على تجسيد الصفات الخارجية للدور المسرحى (ستانسلافسكي)، ومنها ما يركز على الفعل – الصفة الخارجية للحركة الآلية مولدا للشعور (مايرهولد)، ومنها ما يجنب المعايشة ويقصر الأداء على تصوير الصفة الاجتماعية الطبقية التى تنتمى إليها الشخصية (التغريب الملحمى البريختي)، ومعنى ذلك أن الأداء التمثيلى يتفرع فى عدة فروع أحدهما يعايش الشخصية بمشاعرها حتى يصدق فى تجسيد أفعالها، والثانى يفعل آلية الحركة لدى الشخصية وسيلة لإظهار الشعور، ومنهج ثالث يشخص الصفة الاجتماعية للشخصية بمعنى تصويرها عن بعد باعتبارها نائبة عن طبقة اجتماعية تنتمى إليها، لذا تكتفى بعرض الشخصية أو الموقف عن طريق الحكى التمثيلى أكثر من عرضها بطريق المحاكاة، وهذا خلاصة ما فعله النجم (أحمد مكي) فى تجسيده لشخصية الضابط (يوسف) فى مسلسل (الاختيار2) فى موسم رمضان المنصرم.
ففى وسط طوفان ممثلى (الريأكشن) الواحد بل ومعدومى (الريأكشن) من الأساس فى كل شخصياتهم التى تصدرت أعلى مشاهدات رمضان هذا العام، لابد لك وبشكل تلقائى أن تتذكر أحمد مكي، أو شخصية الضابط (يوسف) التى كسر بها القاعدة فى التجسيد التراجيدى بعد تصنيفه طويلا كمجرد كوميديان يلجأ إلى دور الغبى أوالمتخلف عقليا، وقد أثبت (مكي) أنه موهبة تمثيلية متفردة فى أدائها الفطري، ولعله على مدار مشواره فى الكوميديا قدم شخصيات مختلفة لا تقترب من بعضها ولو بلمحة بسيطة على مستوى الأداء، فكل شخصية بشكلها ومضمونها وطريقة كلامها وحتى طريقة كوميديتها تبدو مختلفة تماما عن غيرها، فتجده كوميديا فى شخصية (الكبير) غير كوميديا (چوني) غير كوميديا (حزلقوم) فى ذات المسلسل.
ونفس الشىء ستجده عند أحمد مكى كوميديا فى (إتش دبور) غير كوميديا شخصياته فى (طير انت) ومع ذلك فهو فى كل حالاته قادر على أن ينتزع الضحك من القلب عبر تفاصيل كل شخصية يقدمه بإيفيهاتها وبأسلوب مختلف عن بقية شخصياته، كل هذا يقدمه ممثل فى الأساس كوميديان، وأضف إلى كل تلك الشخصيات السابقة عليهم أيضا شخصية سواق التاكسى فى (ليلة البيبى دول) فى بداياته، والتى قدم من خلالها أداء تمثيليا عاليا وعكس من خلالها ملامح واستايل واقعى مع كوميديا وخفة دم فكان قادر طول الوقت أن يسرق الكاميرا من ممثل عظيم مثل (نور الشريف)، وكل هذا فى النهاية يثبت لك أنك أمام واحدة من أهم المواهب التمثيلية فى تاريخ مصر، فهو ليس مجرد كوميديان دمه خفيف بل ظهرت مواهبه كممثل عتيد فى اللون التراجيدى فى (الاختيار2) بصورة تؤكد احترافيته فى الأداء الصعب.
ولأنه يتعين على الممثل فى المواقف التى تعبر عنه وهو يمثل مركز الحدث أن يعيش انفعالات الشخصية وأحاسيسها بصدق وإيمان، تماما كما فعل (مكي) مع الضابط يوسف، فكيف للممثل أن يؤثر على الجمهور ويقنع المتلقى بانفعاله وشعوره، وبصدق أحاسيسه؛ إذا لم يكن هو مؤمنا ومقتنعا إلى الحد الذى يصبح فيه الشخصية التى يؤديها؟، نقول إلى حد ما لكى لا يفهم من هذا الكلام أن لا دور لعمل الوعى والنقد الذاتي، أو المراقبة الذاتية فى عمل الممثل، أو بتعبير آخر مفارقة الممثل الأساسية فى أن يعيش الشخصية بصدق، وأن يكون فى الآن، نفسه، على وعى تام بأنه يمثل الشخصية ويقدمها للجمهور.
ولعل نجاح (أحمد مكي) صاحب التجربة الكوميدية الكبيرة فى تجسيده الاحترافى لشخصية (يوسف) فى قوتها وشدته وحنوها البالغ على الأب (رفاعي، هادى الجيار) وصديقه (عادل/ أحمد حلاوة)، وكذلك مروره بحالات الاضطراب العاطفى مع خطيبته (عاليا/ أسماء أبو اليزيد) يرجع إلى أنه ممثل مقتدر ومقنع لعب جيدا بكيفية طبيعية، تلقائية وصادقة، مع قدرته على عدم الانغماس الكلى فى الدور أو الانقياد الكلى لمشاعر الشخصية، بوصفه ممثلا لصفة اجتماعية وليس ممثلا لذاته، والفرق بين المعايشة وتشخيص الصفة الخارجية للشخصية هو فرق بين منهجين مسرحيين مختلفين فى التمثيل فالصدق الاندماجى يستلزم المراقبة الذاتية، أما الصدق التغريبى أو غير الاندماجى فيستدعى الوعى ومراقبة الممثل لأدائه لمواقف أو صور من الشخصيات المستعادة؛ تماما كما استعان (مكي) بالأقنعة لتمثيل تلك الشخصية فى مواقف معينة عبر تطور الأحداث.
أحمد مكى، ذلك الفنان الذى أحببناه، بسبب أدواره الكوميدية، يبقى لغزا محيرا ويصعب فهمه حتى الآن، فوراء هذا الكوميديان رحلة عذاب وطفولة صعبة، فهو عكس الشخصية التى عرفناه بها تماما، فلم يكن الفتى المدلل عند أسرته، بل كافح حتى يصل إلى مكانته الآن، وعلى الرغم من أنه ولد فى (وهران) لأب جزائرى وأم مصرية، إلا أنه غارق فى المحلية المصرية وعاشق لتراتب هذا الوطن إلى أبعد حد، فبمجرد أن انتقل مع والدته إلى مصر، وعاش فى حى (الطالبية) انفصل والده عن والدته، لهذا عاش طفولة صعبة، فكان عليه أن يعمل فى سن صغيرة، ليتكفل بمصاريفه ويخفف الحمل عن والدته، وبدأ مشواره الفنى فور أن تخرج فى معهد السينما قسم الإخراج، وأخرج عددا من الأفلام أبرزها: (الحاسة السابعة) من بطولة أحمد الفيشاوى وإيناس مكى.
اتجه إلى التمثيل، وقدم أدوارا صغيرة فى بعض الأفلام مثل فيلم (ابن عز)، مع الراحل علاء ولى الدين، وفيلم (تيتو) مع أحمد السقا، وازدادت شهرته عندما قدم شخصية (إتش دبور) لأول مرة فى سيت كوم (تامر وشوقية)، و يقول (مكى) إنه قام بالتغيير فى هذه الشخصية بشكل كبير، ورسم لها الملامح التى شاهدها الجمهور على الشاشة، وهو ربما أعجب الفنان الكبير عادل إمام بهذه الشخصية، وطلب منه أن يشاركه فى فيلم (مرجان أحمد مرجان)، ثم قدم بعدها أول بطولة مطلقة له عبر نفس الشخصية فى فيلم (إتش دبور) التى انطلق من خلالها إلى (عالم النجومية) الرحب.
ويبقى الفنان أحمد مكى واحدا من أهم الفنانين الذى عملوا بمجال التمثيل فى مصر و من أهم مطربين الراب فى السنوات الأخيرة، فاستطاع أن يرسم الضحكة على وجوده محبيه، كما صنع العديد من الأغانى التى حملت رسائل وناقشة قضايا مجتمعية، ونجح منذ ظهوره على الساحة فى العمل مع قامات فنية كبيرة سواء كمخرج أو كممثل، ويرجع سبب ذلك لكونه يعرف إمكاناته جيدًا واستغلها بأفضل شكل فى الظهور سريعًا وأستطاع أن يخطف قلوب الجمهور فى كل مرحلة فنية يخوضها ويتفوق فيها بجدارة، وبعد أدائه عدة أدوار ثانوية وبطولات شبابية فى عدد من الأعمال فى الفترة من عام 2001 حتى عام 2007، نجح عام 2008 فى أول اختبار حقيقى له بتقديم أولى بطولاته بالسينما من خلال فيلم (إتش دبور) لتتوالى نجاحاته وأعماله بعد ذلك.
وأعود لـ (الاختيار 2) ثانية فبمجرد إعلان مشاركة أحمد مكى فى مسلسل (الاختيار 2) الذى شارك فى بطولته الفنان كريم عبدالعزيز، وظهر مكى فى الصورة وهو يشبه الفنان العالمى (فان ديزل)، ومن ثم فقد تعرض لهجوم عنيف وممنهج من لجان الإخوان الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعى بسبب مشاركته فى المسلسل، ربما لأنهم يعرفون أن الجزء الجديد سيكشف ما كان يحدث داخل اعتصامات الأخوان فى أحداث ثورة 30 يونيو، لم يخرج مكى للرد على الهجوم وركز جيدا فى أداء شخصيته حتى جعل محبيه فى مصر والوطن العربى قاموا بدشن هاشتاج (مكى بيحب مصر) للرد على هجوم لجان الإخوان.
صحيح أن مشاركة أحمد مكى فى مسلسل (الاختيار2) جاءت بترشيح من شركة (سينرجي) المنتجة للعمل والمخرج بيتر ميمي، لكن مكى ثمن ذلك جيدا ولم يأخذ وقتا طويلا فى التفكير واتخذ قراره بخوض التجربة خاصة بعد النجاح الكبير الذى حققه الجزء الأول الذى قدمه النجم أمير كرارة، وبالرغم من ارتباطات مكى بأعمال أخرى سواء فى المسرح أو الدراما إلا أنه قرر توقف كل مشاريعه لحين الانتهاء من (الاختيار)2، وكان رهانه ناجحا للغاية عندما قرر أن يجسد شخصية أحد الضباط الذى يعمل فى القوات الخاصة بالشرطة المصرية ثم ينتقل إلى الأمن الوطنى بعد تعرضه للإصابة فى ساقه.
يتميز (أحمد) بأسلوب السهل الممتنع، فهو كيان فنى كبير يشعر جمهوره دائمًا بأنه واحد منهم من خلال الأدوار والأعمال التى يلعبها، وفى نفس الوقت لا يظهر إلا مع أعماله فقط، فنادرا ما تجده يظهر للحديث عبر السوشيال ميديا أو حتى فى البرامج، ومع ذلك يحبه الجمهور بشدة لصدقه فى أدائه وحرصه على وضع خبرته وخلاصة تجاربه الحياتية فى أعماله، وقد يعود ذلك إلى نشأته فى أسرة ممزقة، حيث أن والداته انفصلت عن والده وكان من السهل أن يعيش حياته كشاب بشكل طائش ومع ذلك ركز فى أن يكون شخصا ناجحا واستغل تجاربه السيئة فى أن يكون شخصا مثاليا سواء كأب أو كفنان.
جدعنة وأخلاق (مكي) الرفيعة تكمن فى الأثر الإيجابى الذى تركه فى نفوس جمهوره، بعد أغنية (قطر الحياة)، والتى بموجبها توقف عدد كبير من الشباب عن الإدمان، كما أنه أعاد الثوابت والتقاليد الذى تربينا عليها فى الأحياء والشوارع المصرى قديما فى أغنية (وقفة ناصية زمان)، ونصائحه لنجله فى (أغلى من الياقوت) التى تعد نصائح لجيل كبير من الأطفال عندما يخرجون للدنيا، وفى إطار (الراب) الهادف قدم (مكي) أيضا (جدعان طيبين) التى كانت أول أغنية راب يقدمها ضمن دعاية فيلبم (إتش دبور)، وحققت نجاحا كبيرا ليحرص بعد ذلك على تقديم أغنية فى كل فيلم يقدمه، إلى أن قدم أول البوم غنائى راب عام 2012 باسم (أصله عربي).
قدم أحمد مكى خمسة أجزاء من المسلسل الكوميدى (الكبير) الذى تفوق فيه على نفسه واستطاع أن يرسم البهجة على وجوه جمهوره لسنوات طويلة، وفى المسلسل قدم مكى خمس شخصيات مختلفة عندما تشاهدهم يجعلونك تفكر كيف لشخص واحد أن يقدم كل هذة الشخصيات بهذا الاختلاف وهم (الكبير – الكبير أوى – الكبير جدا – جونى – حزلقوم)، وعلى كل هذا النجاح لم يطلق (مكي) على نفسه لقب (الكبير)، ولكنه استحقه عن جدارة بعد هذا العمل ليس من أجل المسلسل فقط بل عن أعماله الفنية المميز والهادفه فى الدراما والسينما والغناء ومؤخرًا المسرح ليعد من بين أهم الفنانين الشاملين فى السنوات الأخيرة.
يفضل (مكي) دائما العيش بحرية بعيدًا عن الكاميرات، فلا يحب الظهور فى الأحداث الفنية أو المناسبات العامة أو حتى العزاء إذا كانت بها كاميرات، فقط يركز فى تقديم أعمال فنية جديدة سواء كتمثيل أو أغانى راب بأفكار مميزة ومختلفة، ولا يهوى كغيره من النجوم المهووسين بالسوشيال ميديا ولا يحب تصدر التريند إلا بأعماله المميزة ويحافظ طوال الوقت على سرية حياته الشخصية، فمنذ عدة سنوات مر الفنان أحمد مكى بأزمة مرضية حيث تعرض لفيرس نادر يحطم الكبد والطحال والرئة، وكان يتغذى من خلال الوريد ولا يستطيع شرب الماء حتى، وكانت تجربة قاسية على مكى لدرجة أنه سجد شكرًا لله بعد شفائه وقيامه بشرب المياه بنفسه، وخرج من هذه الأزمة بعدد من الدروس الهامة فى حياته تقربه من الله أكثر.
بقلم محمد حبوشه