المتأمل للنص القرآني الحكيم في قوله تعالى من سورة الإسراء “وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً” (الإسراء: 72)، يجد ثراء دلاليًا وبلاغة تصويرية بديعة للفظة العمى، التي رغم تكرارها في آية واحدة إلا أنها تختلف في المعنى بين عمى الحياة الدنيا وعمى الآخرة الأشد.. وأن العمى المادي المحسوس وفقدان البصر يختلف عن العمى المعنوي وفقدان البصيرة.
فإذا كان الأعمى من منظور الناس هو من فقد الأبصار بكلتا عينيه لعاهة، فإن تأويل معاني العمى في النص القرآني، من عمِي الشَّخصُ: ذهب بصر قلبه، وجهل، ولم يهتدِ إلى خير، فلم يستطع رؤية حجج الله وبراهينه وقوة آياته، فهو جاهل والجهل عمى، وكم من مبصر حاد البصر، لكنه لم يتوقف عند نعم الله وعجائب قدرته في مخلوقاته، فكم غنيًا معجبا بماله جمعه بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، وأكل مال الغير بغير حق، مبررًا لنفسه سبل الثراء الفاحش،
عن عمى وفقدان بصيرة وسوء تقدير، وبينما هو مستدرك في غروره بماله، إذ فقد ثروته وصار فجأة فقيرًا معدما، بعد ما كان غنيًا مكرمًا منعمًا، يٍسأل الناس فيعطوه أو يمنعوه، وكم شابا في ريعان شبابه، توقف قلبه فجأة وقد ظن الجميع أنه قد مات، فيعود للحياة وكأن مشهد الموت والحياة شريط سينمائي أسرع من البرق، وكم عروسًا استعدت للزفاف وجمعت الأحباء والفرقاء من كل مكان ثم فارقتهم في لحظات، فتحول الفرح إلى حزن عميق، والبهجة إلى كآبة.. ولا راد لحكمه ولا مانع لمشيئته.. وفي كل حالاتنا في هذه الدنيا آيات بينات على واسع قدرته وعظيم حكمته عز وجل، ولكن من يرى ويتعظ ويأخذ العبرة ويسرع في الإقلاع عن ظلم نفسه وظلم من حوله، فيرد الحقوق لأصحابها ويمسك لسانه ويده عن أذى الناس، بالقول أو الفعل.
ومن كان في هذه – أي الدنيا، أعمى ليس عن فقدان حاسة البصر، ولكنه عدم رؤية الحق والإمعان والتأمل في نعم الله وشكره عليها، فهو في الآخرة أعمى، عن طريق النجاة، “ وأضل سبيلاً ” أبعد طريقا عنه. أفلا تعقلون؟
بقلم
محمد ثروت