موقع مصرنا الإخباري:
لعل هذا النمو المطرد لدور الدراما في حياتنا المعاصرة، قد جاء بعد أن أصبحت الفضائيات العربية حالة خاصة وفريدة فى تطور مسيرة الإعلام العربى، حتى أنه يمكن القول براحة تامة، بأن مجمل التطورات التى أحدثها ظهور الفضائيات العربية فى الشارع العربى، وفى وسائل الإعلام التقليدية منذ أوائل العقد الأخير من القرن الماضى يعادل مجمل التطورات التى شهدها الإعلام العربى منذ ظهوره، وهذا يتطلب من صناع الدراما في هذه المرحلة المفصلية من عمر الوطن، إدارة الدفة نحو بطولات الجيش والشرطة لترسيخ مفاهيم الوطنية والانتماء على نحو محترف، خاصة أن لدينا قصص وبطولات ترقى في مستواها الدرامي إلى ما هو أسمى بكثير مما تقدمه هوليود من أفلام عنف وحرب لاتهدف سوى تمجيد بطلها السينمائي الخارق.
وقد لاحظت مؤخرا تطور شكل الدراما المصرية في صناعة مسلسلات ترصد البطولات العسكرية للجيش والشرطة، بحيث ترقى إلى مستوى هوليوود في تمجيد بطلها الخارق، والتي لا تستطيع أن تتوقف عن إنتاجه بأشكال مختلفة وإن بدت هذه الأشكال متشابهة ولا يمكنها أن تعيد النظر جذريا بالصورة الخيالية التي صنعتها عنه، فهو المنقذ من الخراب الذي أصابها على الشاشة الكبيرة، وها هى الدراما المصرية تعيد صوغ أبطالها مجددا بحيث تعيد النبض إلى أجسادهم والروح إلى ذواتهم، كما جاء في مسلسل (الاختيار 2) الذي يعيد تصوير أمجادهم وبطولاتهم الأسطورية، فالفرد يثأر للجماعة، الفرد الموغل في إنسانيته وهدوئه ومثاليته وبساطته ومحبته للآخرين، الفرد رب العائلة الذي يعشق زوجته، ويحب أولاده ولا يتردد لحظة عن إنقاذ الآخرين من الموت، مضحيا بنفسه وروحه.
(الاختيار 2 – رجال الظل) .. دراما فائقة الجودة على مستوى الصناعة والأداء والإخراج والتصوير والموسيقى التصويرية والمونتاجوغيرها من عناصر فنية أخرى، فقد استطاعت أن تعيد الأجواء الكئيبة لاعتصام (رابعة العدوية)، منذ الحلقة الأولى وحتى الحلقة الخامسة (فض رابعة)، ثم رصدت التداعيات الأخري التي أعقبت تلك الحرب المسلحة التي روجت لها الجماعة الإرهابية باعتبارها تجمع سلمي، لكن المشاهد الحية وفق رؤية المؤلف (هاني سرحان) ودمجها بالمشاهد الجديدة بحسب رؤية المخرج (بيتر ميمي)، تؤكد عكس ذلك تماما، بدليل أنه بمجرد فض رابعة انطلقت أعمال التخريب والقتل واستهداف كمائن الشرطة والكنائس والمساجد، وملاحقة ضباط بعينهم وعلى رأسهم ضابط الأمن الوطني (محمد مبروك) الذي كشف قضية تورط مرسي في التخابر مع جهات أجنية.
ما أضفى كثير من المصداقية على المسلسل هو ظهور صوت الإرهابي (صفوت حجازي) في الحلقة الأولى وهو يلقي حديثا غاضبا تبدو فيه لغة التهديد والوعيد، فور إعلان تعطيل الدستور، وتولي المستشار عدلي منصور مقاليد الحكم في البلاد، على أن تجرى انتخابات رئاسية مبكرة، وهو ما أثار حفيظة المعتصمين في رابعة العدوية في مدينة نصر، والنهضة بالجيزة، وعلى هذا الأساس تباينت ردود الفعل من جانب مغردين وعناصر من الكتائب الالكترونية الإخوانية على مشاهد رابعة حيث ذهبت بخيالها المريض إلى الادعاء بتلفيق أحداث رابعة من جانب صناع المسلسل
لقد أوضحت حلقات المسلسل كيف صارت الأحداث بإيقاع سريع يجمع بين تفاعل عناصر الجماعة الإرهابية فور عزل محمد مرسي، وبدأت المواجهات المسلحة بين المعتصمين وعناصر الشرطة المدنية قبل بدء فض الاعتصام، وقد أظهر أداء فريق عمل المسلسل مشاهد الحقد الأعمى الذي بدا واضحا على القيادات العليا والوسطى للجماعة في محاولات إثارة حماس الشباب المغرر بهم، وقد أجاد (كريم عبد العزيز) في تحقيقه مع الإرهابي (محمد فراج) في مقر (جهاز الأمن الوطني) بعد تورطه في تفجير عمارة بمصر الجديدة، حيث جاء رد فعل (فراج) في البداية يحمل قدرا من التحدي والثقة بأن رئيسه مرسي سوف يتدخل للإفراج عنه، في حين جاء رد فعل (كريم) حازما وفي إصرار على تنفيذ القانون بغض النظر من يحكم مصر في تلك اللحظة الفاصلة من عمر الوطن.
على الطرف الآخر من أحداث سيناء بدت شجاعة ضابط الشرطة (أحمد مكي) في تعامله مع الخلايا الإرهابية من خلال مفارقات مع أبناء سيناء الذين تغلغل الإرهابيون بينهم في ظروف استثنائية، وقد بدا مكي رشيقا يتمتع بقدر من الشجاعة والإقدام ويلازمه (أحمد فهمي) في عمليات المواجهة سواء عبر المساكن أو في ساحات المواجهة الشرسة يوم 14 يوليو 2013، حيث تحولت شمال سيناء إلى ساحة للغضب والقتال الشرس من جانب عناصر الجماعة الإرهابية التي انخرطت في شكل تنظيمات تحت مسميات مختلفة، وذلك انطلاقا من تهديداتهم المسبقة في اعتصام رابعة عندما لوحوا بأنه مصر كلها ستتحول إلى حمامات دم في حالة عدم عودة مرسي وفض الاعتصام بالقوة.
ووصولا إلى الحلقة الخامسة التي شهدت (فض رابعة)، والتي أذيعت في الساعة التاسعة والنصف، في خامس أيام رمضان، لاحظت صمت ضجيج الشوارع بعض الشىء، فالناس فى البيوت المصرية التفوا جميعهم حول التليفزيون، تقريبا معظمهم يستقرون على نفس القناة، ويشاهدون نفس المسلسل، لم تكن تلك (اللمة) فى البيوت فقط، بل ازدحمت المقاهى، واصطف زائروها حول الشاشات الكبيرة فى انتباه شديد، هذه المرة لم يكن بسبب مباراة القمة، أو مباراة لمحمد صلاح، ولكن من أجل الحلقة الخامسة لمسلسل (الاختيار 2)، حيث كان الناس على موعد عملية فض اعتصام رابعة العدوية.
استطاع مسلسل (الاختيار 2) أن يعيد علينا مشاهد تعكس ظلامية فكر الإخوان ونهجهم في العنف والإرهاب بعد أن كادت تسقط من الذاكرة، وهو ما انعكس كليا فى الكثير من المقاهى الشعبية، والذى شهدت اهتماما شديدا بتلك الحلقة، وحتى بعد عرضها، كان الحديث السائد هو تفاصيل الحلقة والعودة لذكرى الفض، وحظيت مواقع التواصل الاجتماعي بصور لعدة مقاهى تكتظ بالمواطنين يجلسون فى اهتمام أمام الشاشات في كافة أحياء ومناطق مصر في ريفها وحضرها، مايشير أن الفن الراقي المحترم يظهر لنا كل الصعاب التي يواجهها الوطن ضد التيارات المنحرفة التي تريد هدمه، وتأكيد عملي على أن القوة الناعمة أقوى وأشد من السلاح نفسه.
هذا العمل الرائع الذي أظهر وكشف تضحيات أبطال شرطة مصر، شكلت حلقاته عملية إقناع قوي بالحوار الذي صنعه بحرفية (هاني سرحان)، لذا ظل طوال الوقت يحمل في طياته كل المصداقية الناتجة عن صناعة فائقة الجودة، أعادت علينا أجواء ما كانت ستصل إليه مصر من دمار وخراب، وأوضح لنا المسلسل أن هناك خطوط حمراء عند أماكن معينة لن تسمح الدولة وقيادتها السياسية بها أبدا، وهي الحفاظ على مصر، كما عكست الأحداث المفعمة بالإثارة والتشويق أن المواطن المصري يعي جيدا الخوف على بلده، ويوحد الصفوف عندما يشعر بخطورة ما سيدور، والتاريخ يشهد لمصر بهذا، وذلك مدلول سلوكي واجتماعي قوي يرسخ في وجدان في الشخصية المصرية.
كشف لنا مسلسل (الاختيار 2) أيضا التضحيات العظيمة التي قدمها أويقدمها يوميا أبطالنا الشرفاء من القوات المسلحة الباسلة والشرطة العظيمة، لحماية أمن واستقرار الوطن، وفضح في الوقت ذاته جماعة الإخوان الإرهابية، وكشف تاريخها الأسود الملطخ بالدماء، وكذب وخداع قوى الشر التي تريد هدم مؤسسات الدولة العريقة، وإسقاط مصر، كما لعب دورا مهما في تنمية روح الانتماء الوطني، ما يتطلب بالمزيد من مثل تلك الأعمال العظيمة، حتى يتعرف النشء الصغير والأجيال المقبلة على بطولات أبطال مصر الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل الوطن.
طالبت النائبة صبورة السيد، عضو مجلس النواب، بتدريس الحلقة الخامسة من مسلسل (الاختيار 2)، والتي كانت تتحدث عن فض اعتصام رابعة للطلاب بمختلف المراحل التعليمية في الكتب المدرسية، خلال الفترة المقبلة، ومع أني أشاطرها الرأي لكن وعلى الرغم من أهمية هذه الحلقة من الناحية التوثيقية إلا أن حلقة واحدة لاتكفي، بل ينبغي أن يدرس المسلسل بجزئيه الأول والثاني وكذلك مسلسلي (هجمة مرتدة، القاهرة – كابول) على طلاب المدراس والجامعات حتى يتسنى لجيل الشباب الحالي إدراك قيمة البطولات والتضحيات التي تقوم بها الشرطة والقوات المسلحة، وكي يفتخر هؤلاء الشباب بأبطالهم من الشهداء والمصابين الذين سيظلونة أيقونة في الفداء من أجل هذا الوطن.
(إنك تستطيع خداع بعض الناس كل الوقت، ولكنك لا تستطيع خداع كل الناس كل الوقت)، هذه عبارة قالها أحد النشطاء الإخوانين في معرض تعليقه على حلقات مسلسل (الاختيار 2) بما قدمته من مغالطات وأكاذيب وتزويرا للحقائق عن (فض رابعة) – على حد زعمه – لكني أرها تنطبق تماما على الحقائق والمغالطات الإخوانية التي غابت 8 سنوات حتى جاء المسلسل لينفض عنها الغبار الأسود، ويعرض مشاهد توثيقية للسلاح وخطط التخريب التي خرجت من قلب هذا التجمع الذي ثبت عدم سلميته على الإطلاق، ويثبت خداع الإخوان للمجتمع الدولي الذي انحاز بعض منه لمظلوميتهم الزائقة.
ولابد لي أن أتحدث عن الأبطال الذين أثبتوا أنهم على قدر مسئولية الملحمة الوطنية .. كريم عبد العزيز الذي أثبت جدارته في الأداء التراجيدي بمسحة كوميدية خفيفية على نحو اتسم بالبراعة والإتقان في تقمص شخصية مقدم الأمن الوطني (زكريا يونس)، وقد بدا في أدائه بإبداع الواثق بلا تشنج، وأثبت أنه ضابط حقيقى يواجه إرهاب الجماعة الإرهابية فى الشوارع والميادين، ويستجوب العناصر الإرهابية، يتحرك ويتحدث وينظر ويلتفت بثبات وجدية متشبعاً بالشخصية، أما أحمد مكى العفريت المعجون الموهوب فقد فاجئ الجمهور وكشف مناطق جديدة للإبهار بخفة دمه المعهودة ، ولعلك تشعر فى كل دور يقدمه أنه يملك جرابا مملوءا بالشخصيات والمفاجآت يخرج منه فى كل عمل شخصية ومفاجأة جديدة، وربما كانت براعة الأداء من جانب الاثنين وراء نجاح المسلسل فى أن يجعلونه يستعيد ذكريات الأحداث التى عاشها وعاشتها مصر خلال فترة حكم الجماعة الإرهابية، وذلك بالانتقال بين الأحداث بسهولة وبحرفية عالية عكست صدق أدائهما وإقناع الجمهور بأنهما يجسدان بطلين حقيقيين أخلصا في أداء الواجب تجاه الوطن.
ونجح معظم المشاركون فى (الاختيار 2) فى تقديم أدوارهم بصورة متقنة وبأداء رائع، حتى من قاموا بمشاهد قليلة فى العمل، خاصة مجموعة الفنانين الذين قدموا أدوار أهالى سيناء، وكان من العناصر الجاذبة فى المسلسل الظهور الخاص للفنان الراحل الكبير هادى الجيار، ومشاركة الفنان الكبير رياض الخولى، أما الموهوب إياد نصار والذى جسد شخصية الضابط الشهيد محمد مبروك الذى تولى قضية تخابر مرسى، فقد بدا رائعا للغاية وأتقن تجسيده للشخصية على المستوى النفسي والاجتماعي بطريقة رائعة
ويبقى أهم ما يتميز به (الاختيار 2 ) هو إحداث التوازن بين الدراما والأكشن والحركة والجوانب الإنسانية، والإبداع فى انتقال الأحداث بين القاهرة وسيناء، والاستعانة بأحداث ومشاهد حقيقية فى مزج رائع يضفى على المسلسل جوانب واقعية، وكذلك الاستعانة بمشاهد من الجزء الأول من المسلسل ومنها ظهور شخصية الشهيد المنسى وأحمد العوضى ومحمد إمام فى الجزء الثانى من الاختيار والذى تم بشكل جاذب وموفق من جانب كل المؤلف الواعي (هاني سرحان)، والمخرج المبدع (بيتر ميمي).
بقلم محمد حبوشه