بداية لابد لي من القول بأن موضوعات مسلسلات موسم شتاء 2022، 2023 جاءت غير تقليدية للجمهور، حيث ركزت بالمقام الأول والأخير على دراما العائلة، وذلك ما تحتاجه صناعة الدراما فى مصر منذ فترة، فكلما كان موضوع المسلسل مختلفا وغير نمطى أو مكرر كان جذابا للجمهور بصورة كبيرة، فليس من الجيد أبدا أن نرى نفس الموضوعات التى أصبحت محصورة بين (الأكشن والكوميديا فقط) فى أغلب الأعمال الدرامية، وأيضا كلما كان المسلسل يناقش قضايا اجتماعية مختلفة تهم الجمهور حتى لو كانت بشكل وقالب كوميدى، فذلك سيكون أفضل من تقديم عملا فنيا يحمل موضوعا مكررا تم تقديمه سابقا فى أكثر من عمل سينمائى أو درامى.
ولعله يبدو لى ملحوظا ميزة مهمة جدا توفرت فى صناعة تلك أعمال الشتاء هذا الموسم أن هناك جهود إنتاجية مشتركة بين عدة شركات مختلفة بالتعاون مع (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية)، وهو الأمر الذى انعكس إيجابيا لحساب الجودة فى الشكل والمضمون، وربما هذا التطور النوعى قد أدى بالضرورة إلى تحسين صورة المنتج الدرامى المصرى خلال هذا الموسم، وأظنه سيتجلى أكثر وأكثر فى موسم رمضان 2023، خاصة أن المنتجين يحرصون فى السنوات الأخيرة على تقديم أعمال درامية، متميزة، خارج إطار الشهر المبارك، إيمانا منهم بحق المشاهد فى متابعة مسلسلات جديدة على مدار العام، فضلا عن الابتعاد عن الزخم الدرامى فى الشهر الكريم، وتعرض بعض الأعمال للظلم، كونها لم تلق فرصة الانتشار.
مكاسب كثيرة حققها موسم (دراما الشتاء) هذا العام، أهمها أنه كشف لنا عن جوانب مهمة فى موهبة النجوم: (صبري عبد المنعم، محسن محيي الدين، خالد الصاوي، صابرين، شريف منير، صلاح عبد الله فتحي عبد الوهاب، داليا مصطفى، سليمان عيد، ندى بسيوني، محمد فراج، طارق عبد العزيز، ريم مصطفى، ريهام عبد الغفور)، كما أنه فى الوقت ذاته سلط أضواء كاشفة على شباب قادمون على طريق النجومية بجدارة مثل (محمد مهران، محمد على رزق، أحمد جمال سعيد، هاجر الشرنوبى، مها نصار، سمر علام، دنيا ماهر، نور إيهاب، ريهام الشنواني)، والذين جميعا يتمتعون بقدرة فائقة على تجسيد الشخصية التى يلعبون أدوارها ببراعة طوال الأحداث.
وقد تجلى ذلك من خلال مسلسلات (طير بينا ياقلبي، أعمل ايه، فرح، إيجار قديم، العيلة دي، حكايات جروب العيلة، حكايات جروب الماميز، وش وضهر، الأصلي، بالطو، وبينا ميعاد)، وغيرها من أعمال انشغلت بالأساس على هموم العائلة المصرية، وأثبت أن للدراما دور مهم في التوعية والتنوير، ولذا يصبح المسلسل التلفزيوني جزءا مهما في حياتنا، خاصة عندما يحكي لنا عن تاريخنا الماضي والحاضر بأسلوب مشوق يعيد لنا الثقة في الآباء الذين صنعوا مجدا تليدا على ضفاف النيل منذ فجر التاريخ وحتي اليوم، وقد لفت نظري أن هذه النوعية من المسلسلات عالجت الشأن الاجتماعي بوعى أكبر وأشمل وضمنته رسائل إيجابية عن دور الآباء والأمهات في التربية ومساندة المدرسة في دورها التربوي والتعليمي، وقدمت لوحات اجتماعية بشكل كوميدي لطيف بأداء مغاير لنجوم أظهروا نضوجا مختلفا فضلا عن خفة الدم المصرية وتحمل طاقة إيجابية تحيل أصعب المشاهد إلى واحة رحبة من الكوميديا اللذيذة.
وأتوقف بقدر من التأمل أمام مسلسل (وبينا ميعاد) الذي أكد على الموضوع الاجتماعي في إطار كوميدي خفيف، وركز بالضرورة على مفاهيم التماسك الأسري رغم المشكلات والمطبات التي تواجه الأب والأم في رحلة الحياة التي تدور في فلك الشر والضغينة التي صدعت جدران البيت الذي يحوي بداخله أسرة كبيرة مكونة من (الأب والأم و4 أولاد، و4 بنات) في تناغم تلقائي غير مقصود، بقدر ما يبعث رسائل مهمة للغاية تحرض على التماسك الأسري مهما كانت الظروف والأنواء التي تحاصر هذا البيت القائم على الألفة والتراحم، وهو ما نفتقده في كثير من مسلسلات هذا الزمان، والجميل أن كل تلك المفاهيم جاءت بحس كوميدي خفيف يحد من التوتر والعصبية التي كان لها وجودا مكثفا جراء تلك الحياة المشحونة بالغضب.
لقد عزف صناع مسلسل (وبينا ميعاد) على أوتار الشجن المحبب من خلال علاقة الأسرتين ببعضهم البعض، ولعل أبرز أوجه التناغم بين (صبري فواز وشيرين رضا) تبدو واضحة في أحداث تتسم بالتركيز على القيم والأخلاق، ليأتي المسلسل في قالب درامي اجتماعي كوميدي، يستعرض تفاصيل الحياة ومشكلاتها وأزمات تربية الأبناء في الطبقة المتوسطة، من خلال البيوت وأماكن العمل والدراسة والمشاكل اليومية التي من الممكن مواجهتها بحلول عملية بسيطة، وقد نجح المؤلف والمخرج (هاني كمال) في تقديم صورة مبهرة ترصد عديد من المشاهد التي حظيت بتعليقات إيجابية من جانب المشاهدين، واصفين إياها بأنها (تمس القلب) وتعبر عن حال كثير من الأمهات اللواتي يتولين مسؤولية تربية الأبناء وحدهن، كما أن المسلسل يتناول حجم انعكاس غياب الأب على الفتيات.
ومن جهة أخرى يعد المسلسل من الأعمال الدرامية القليلة التي طرحت مصاعب تربية الأبناء الذكور، وفق متابعين، وتأثرهم برحيل الأم حتى عند بلوغهم سن الشباب، كما يعد المسلسل جزءا من المشروع الفني للمخرج والكاتب هاني كمال، الذي قدم من قبل عددا من الأعمال الدرامية التي تتعمق في يوميات الأسرة المصرية ومشكلاتها، مثل (أبو العروسة، وولاد ناس) وغيرها من أعمال أصبحت بمثابة (ماركة مسجلة) لمخرج ومؤلف يتمتع بحس اجتماعي عال وسط أعمال أخرى تتمتع بالعشوائية والعنف وزنا المحارم وغيرها من موبقات دراما هذا الزمان.
المهم أننا أمام عمل اجتماعي مشبع بالقيم والتقاليد التي يمكننا السير فيها دون جرح لمشاعر الجماهير، فلا يشترط أن نقدم عملا فانتازيا خياليا، أو ليكن ذلك، لا يهم، الأهم هو أن نستغل ما لدينا من إمكانات على مستوى الإنتاج الجيد، خاصة أن لدينا الآن أجيالا جديدة على قدر من الاحترافية فى العمل على مستوى التمثيل والإخراج، فضلا عن كتاب سيناريو على درجة عالية من الوعى الذى يمكنهم من فهم طبيعة الجمهور وتقديم أعمال جيدة تتفق مع السياق العام للمجتمع، وتلعب أدورا مهمة فى التوعية والتنوير التى من شأنها أن تؤدى إلى تطور الأمة المصرية فى تلك اللحظة الراهنة، بل وتملك القدرة على استعادة بريقها الذى كان.
(وبينا ميعاد) لفت انتباه الجمهور المصري والعربي بشكل جعله يعشق الحكايات والتفاصيل، سواء كان الأمر يمسه أم لا، فما بالك إذا عرض العمل قضايا تخصه وأشخاصا يمثلونه هو وعائلته بأوجاعهم وأفراحهم، وبشكل إنساني حقيقي بعيدا من الفلسفة والتعقيد والمبالغات التي تقدمها الآن الدراما العربية تشبها بالدراما والفن الغربيين، وربما كان الدفء الذي قدمه المسلسل العائلي عنصرا جذابا لطالما تم الاشتياق إليه، ومن هنا نجح (وبينا ميعاد) بشكل كبير جدا وأصبح وجبة أساسية ودسمة تجمع بين الاجتماعي والكوميدي على مائدة موسم الشتاء.
استطاع النجم (صبرى فواز) أن يلفت الأنظار إليه فى شخصية الأب الذى يتفرغ لتربية أربعة أبناء بعد وفاة زوجته، حيث قدم فواز دور البطولة لأول مرة بنجاح كبير، وقدم نموذج الأب الناجح بشكل عصرى، والذى يجمع بين خفة الدم، واللين فى المعاملة، والحدة والصرامة فى نفس الوقت، هذا بجانب قصة الحب الهادئة التى عاشها مع (شيرين رضا) خلال الأحداث، وأكد الثنائي (فواز ورضا) أن بالنسبة له الأبوة والأمومة تعنى الحنية والتى تحل الكثير من المشاكل بينه وبينه أولادهما، ولا بد أن نتعامل بميزان فى تربيتا لأولادنا بمعنى أننا لا نترك لهم الحبل على الغارب كما يقول المثل أو نكبتهم ونضيق الخناق عليهم، ومن ثم حاولا هذا الثنائي طوال الوقت أن يحتفظا بدفء البيوت التى أصبحنا نفتقدها وقدما تصورا وليس نصائح للناس أن هناك طرقا مختلفة من الممكن أن نتعامل بها مع الأبناء وتكون نتائجها أفضل، كما جاء سياق الأحداث التي اتسمت بالواقعية.
المسلسل يلعب فيه (صبري فواز) شخصية مغايرة تماما اكتسب فيها محبة الجمهور وأكسبته معجبين جدد، خاصة أن الشخصية الذى يلعبها تتميز طوال الوقت بالقرب من أبناءه وحرصه على أن يكون الصاحب والصديق معوضا إياهم عن حنان الأم قبل وقوعه في الحب بصورة مفاجئة من نادية التي تلعب دورها الفنانة (شيرين رضا) ويتزوجها في رحلة يتعرف فيها المشاهد على أمور غير معتادة بالدراما خلال الفترة الأخيرة، وذلك بعدما ظهر (صبرى فواز) خلال المسلسل محاولا حل مشاكل بنات زوجته، كما استقبل طليق زوجته بأحسن صورة، بل وحاول فيما بعد حل أزمة ابنتها، ورغم الإنفصال عن شيرين رضا إلا أنه كان طوق النجاة لها وناصحها بأزمة ابنتها، وهى رسالة ضمن رسائل العمل العديدة التي تترسخ في ضرورة الاقتراب لا التباعد و(ألا تنسوا الفضل بينكم) مثلما توجه التعاليم الدينية.
أيضا مما أثبت انتباه صناع العمل لتلك الرسالة ما ظهرت عليه شخصية (وفاء صادق) التى تلعب دور زوجة الفنان (محمد سليمان)، فلم تكن تنظر بالغيرة أو الشماتة في أزمات بنات زوجها، أو تلقى باللوم على أمهم، وإنما حاولت طوال الوقت نصح زوجها وتقريبه من بناته، بل وحل أزمات بناته إن لزم الأمر ووضع الأمور في حجمها الطبيعى، وربما هذا الأمر الأمر سعي المسلسل لترسيخه طوال الوقت خاصة مع تزايد نسب الطلاق وعما يتم تصديره أغلب الوقت من الأزمات بين الأسرة المنفصلة بصورة تهدم ولا تبنى.
ومع ذلك فإن (وبينا ميعاد) حاول طول الوقت تسليط الضوء على أهمية عدم التنافر بين الأسر بمجرد الطلاق، والتركيز على الأبناء، بالإضافة للدروس الذى يلقيها طوال الوقت، فخلال بعض حلقات المسلسل واجه (صبري فواز) نفسه بأزمته في تربية أبناءه محاولا إستدراكها والممثلة في أنه (صاحبهم زيادة عن اللزوم) – على حد قوله -، في حين جاءت أزمة (شيرين رضا) نابعة من محاولتها الدائمة تعويض دور الأب في حياة بناتها بصرامة فوق العادة، وقد أكد (رضا) أن الاتجاهين في التربية خطأ، وهى الشخصية التي أدتها للمرة الأولى فى مسيرتها فى تحدى كبير خاصة أنها كانت محصورة فى أدوار المرأة الجميلة قبل لعبها شخصية الأم التى تعاني فى تربية البنات وتتناسى نفسها أغلب الوقت حتى ضحت بحبها من أجلهن.
وفي النهاية لابد لي من تحية تقدير واحترام لكل من أولا: (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) التي نجحت في خلق موسم درامي ناجح خلال فصل الشتاء، والذي كانت تعاني منه الدراما خلال السنوات الماضية حيث الركود التام في صناعة المحتوى الدرامي وعدم وجود خريطة واضحة تحدد هوية وشكل الإنتاج المطلوب، وهو يحتاجه المشاهد خلال الفترة الحالية، ثانيا: فريق العملي التمثيلي لمسلسل (وبينا ميعاد) وعلى رأسهم النجمين (صبري فواز وشيرين رضا) اللذين خلقا حالة من الانسجام عازفين على أوتار المشاعر الداخلية لشخصيتي (حسن ونادية)، ثالثا المؤلف والمخرج (هاني كمال) الذي يتجلي يوما تلو الآخر في تحميل أعماله بالرسائل الإنسانية التي تبني ولا تهدم، بحيث أصبح مردفا للإبداع الحقيقي النابع من موهبة حقيقية تستحق أن نفخر جميعا وبأنها صناعة مصرية خالصة.
المصدر: اليوم السابع