قبل أقل من أسبوع، قال الناطق في الخارجية الأميركية، نيد برايس، في معرض رده على سؤال حول الوسيط الأميركي في ملف ترسيم الحدود البحرية جنوباً مع الاحتلال الإسرائيلي، إن زيارة لبنان “ليست على برنامج آموس هوكشتاين حالياً”.
وأضاف أنه ليس لديه جديد في موضوع النزاع حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. بعد 5 أيام كان هوكشتاين في طريقه إلى بيروت بطلب لبناني رسمي “للتوسط” في الموضوع بعد التوتر الذي تسبب به استقدام إسرائيل لسفينة حفر وتنقيب عن الغاز في حقل كاريش المتنازع عليه. لا بدّ وأن ثمة معطيات استجدت على الموقف واقتضت طلب عودته إلى بيروت واستجابته للدعوة.
وحين كان في لبنان في فبراير/ شباط الماضي طرح هوكشتاين على الحكومة اللبنانية أن تبدأ بالتفاوض مع إسرائيل انطلاقا من الخط 23، وطلب منها رداً على اقتراحه. بذلك هو أبلغ الحكومة ضمنا بأن واشنطن تتبنى موقف إسرائيل بأن هذا الخط هو الحدود اللبنانية البحرية الجنوبية، أي الحدود البحرية الشمالية لإسرائيل والباقي يمكن التفاوض بشأنه من غير أي ضمانة للنتائج.
مأزق لبنان أنه نأى عن التمسك الواضح الثابت غير المتذبذب بترسيمه ولم يسارع إلى تصحيحه
الجهات اللبنانية المعنية نامت على الاقتراح بعدما اكتشفت وقوعها في مأزق، لأن دراسة الجيش اللبناني بيّنت أن الحدود تنتهي عند الخط 29 وليس 23. والانطلاق في التفاوض من هذا الخط يقتضي تعديل المرسوم الحكومي اللبناني رقم 6433 الصادر في 2011 الذي يعترف بالخط 23 كحدود جنوبية للمياه الاقتصادية اللبنانية والذي جرى إيداعه آنذاك في الأمم المتحدة كي يصار إلى اعتماده رسمياً بهذه الصورة.
لكن الحكومة اللبنانية عزفت في المدة الأخيرة عن التعديل، خشية أن يغيظ ذلك واشنطن ويحملها على “التخلي عن دعمها للمفاوضات” وهذا ما لا تريده كما تردد. أو ربما امتنعت لعلة “سياسية” في نفس يعقوب. فالمسألة تبدو أبعد من مجرد إجراءات وإيداعات شكلية، وإلا فما المانع من تصحيح الخط بطريقة رسمية دولية على الأقل، لتثبيت شرعية النزاع وبالتالي ضمان وقف إسرائيل التنقيب والحفر لغاية الفصل في الأمر أو التوصل إلى تسوية مرضية؟
وزاد من علامات الاستفهام أن التوقيع على تعديل المرسوم لم يحصل في 2020 بحجة أن الحكومة اللبنانية آنذاك كانت “حكومة تصريف أعمال”. ذريعة أقرب إلى تغطية التهرّب وبما عزز الاعتقاد بأن في الملف “لغزاً ما” قد يكون من النوع الذي تتداخل فيه جوانب وحسابات محلية وإقليمية ودولية.
الخلاف نشأ مع ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص عام 2007، بموجبه بقي تحديد الخط الجنوبي لهذه الحدود (والذي يشكل الخط الشمالي للحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية) مفتوحا للتعديل. وفي 2010، وقّعت إسرائيل وقبرص على اتفاقية حدود أخذت في الاعتبار الإحداثيات المتروكة للتعديل في الخط الجنوبي القبرصي اللبناني أي الخط الشمالي اللبناني الإسرائيلي. وعلى هذا بنت إسرائيل مزاعمها ثم مدّت يدها على الحقوق البحرية اللبنانية في 2020 عندما حاولت التنقيب في حقل كاريش المتنازع عليه، وبما أدى إلى وساطة أميركية في مفاوضات لبنانية إسرائيلية غير مباشرة ما لبثت أن انتهت إلى الانسداد.
وكان قد سبقتها وساطة بين 2010 و2012 تولاّها الدبلوماسي الأميركي فريدريك هوف الذي عرض تسوية ينال لبنان بموجبها 55% من المنطقة المتنازع عليها وإسرائيل 45%. لكنها رفضت من الجانبين. ثمة من الخبراء من يقول إن الخلاف نشأ نتيجة أخطاء في احتساب وتحديد زوايا ونقاط انطلاق الخطوط من الشواطئ وعليه تعتبر مزاعم إسرائيل “مغلوطة”. وفي المقابل، هناك من يرى أن معايير النقاط المرجعية التي اعتمدها الجانبان في الترسيم كانت صحيحة، وبالتالي فإن الحل لا يتوفر إلا بتسوية، كما قال هوف.
مأزق لبنان أنه نأى عن التمسك الواضح الثابت غير المتذبذب بترسيمه ولم يسارع إلى تصحيحه. بدلا من الإصرار رسميا على الخط 29 ودفع الخلاف إلى تحكيم دولي، وضع نفسه تحت رحمة هوكشتاين المسوّق لخريطة إسرائيل البحرية والذي سبق وألمح إلى أنه في أحسن الحالات لا يحمل غير الوعد بتسوية ما، إلا إذا كان وراء الأكمة ما وراءها.
المصدر: العربي الجديد