موقع مصرنا الإخباري:
لم يكن الفنان الكبير الراحل نور الشريف، والذى تمر هذه الأيام ذكرى رحيله السادسة، مجرد فنان موهوب أو رجل صاحب فكر، أو ممثل صاحب مدرسة فنية لها قوانينها الخاصة، بل كان موسوعة فنية وثقافية شاملة ملمة بكل شىء على جميع المستويات حتى الاقتصادية والسياسية، فأتذكر عندما التقيته إبان ثورة يناير، وجدته يقدم لى تحليلا دقيقا لما سيحدث بعد سنوات قليلة، عقب وصول الإرهابيين للحكم إن حدث وقدمت الجماعة مرشحا، ومرت الأيام وحدث ما توقعه «نور» بالضبط، سواء فشل الإخوان فى التعامل بعقلانية مع مؤسسات الدولة، أو قدرتهم على التعامل بحيادية مع باقى فئات الشعب من غير المنتمين لفكرهم المتطرف.
لا أنسى عندما تأخرت على نور الشريف فى إحدى مقابلاتى الصحفية معه عام 2012، وأخبرته عن السبب، وهو الزحام الشديد أثناء ذهابى له فى منطقة الشيخ زايد، وإذا به يأخذنى إلى دردشة ما قبل الحوار، ويتحدث معى عن مخاطر أزمة زحام الطرق والمواصلات بأنها السبب فى تأخر الإنتاج، وأنه فى حالة حلها سينتعش الاقتصاد، وستقل الضغوط النفسية عن الناس، حيث يفقدون نصف طاقاتهم قبل الوصول إلى أشغالهم بعدما يتم انتهاكها فى شوارع الزحام، هذا الحلم يتحقق الآن بعد 9 سنوات، بعد قيام الرئيس السيسى بالتوسع فى الطرق والمحاور والمدن الجديدة بأنحاء الجمهورية وليس القاهرة الكبرى فحسب، لأن هذا الأمر بالفعل هو عماد زيادة الإنتاج، وأساس التقدم الاقتصادى فى كثير من دول العالم التى تحولت من نامية إلى متقدمة، هكذا نور الشريف كان صاحب رؤية مستقبلية وفكر يسبق أوانه.
النجم الكبير الراحل نور الشريف لم يكن كمثل هؤلاء الذين يتعاملون مع الفن كوسيلة فقط لحصد الملايين، وبناء القصور ووضع الأرصدة فى البنوك، وتملك الفيلات والسيارات الفارهة، بل كان يتعامل معه كرسالة سامية لجعل الحياة أكثر بهجة، والتعبير عما نعانيه من أوجاع ومن ثم تسليط الضوء عليها لحلها، كان منذ دخوله الحياة الفنية يسعى لدعم الشباب الباحثين عن فرصة سواء فى التمثيل أو الإخراج، لذلك أسس مدارس تمثيلية وإخراجية مختلفة، فهو من قدم المخرج الكبير الراحل محمد خان عام 1980 فى أولى تجاربه من خلال فيلم «ضربة شمس»، الذى أنتجه نور الشريف من ماله الخاص فى الوقت الذى كان معظم نجوم جيله يتخوفون من خوض تجربة الإنتاج، باعتبارها مخاطرة غير محسوبة، ثم تكررت أعماله الإنتاجية، ليقدم أيضا المخرج الكبير سمير سيف فى أولى تجاربه أيضا من خلال فيلم «دائرة الانتقام»، ليكون نور الشريف الفنان الذى يكتشف المخرجين، وليس المخرج الذى يكتشف الفنانين.
لم تتوقف اكتشافات نور الشريف للمخرجين فى عالم السينما فحسب، بل امتدت أيضا إلى الدراما التليفزيونية حتى فى عقده الأخير عندما قدم مسلسل «الرحايا»، للكاتب عبدالرحيم كمال، استعان بمدير التصوير حسنى صالح، ليقدم أولى تجاربه الإخراجية، استمر دعم نور الشريف للممثلين الشباب الذين يتجولون بين مكاتب الكاستينج وشركات الإنتاج دون داعم أو محتضن حقيقى، حتى أنه قرر تقديم أكثر من 10 وجوه جديدة فى مسلسله الشهير «الدالى» بأجزائه الثلاثة، كل منهم أصبح الآن يقدم البطولة بمفرده أو يتولى أدوارا رئيسية فى أعمال فنية كبيرة منهم عمرو يوسف وحسن الرداد وأيتن عامر ودينا فؤاد وغيرهم.
نور الشريف لم يكن مجرد ممثل عادى أو تقليدى، يأتى له السيناريو فيعمل عليه ليقدمه فى عمل تليفزيونى أو سينمائى، لكنه كان يدرك دائما أن للفن دورا مهما، لا بد أن يعيه الفنان، وهو التعمق داخل نفوس البشر كى يرصد ما بها من هموم وأحلام وطموحات وأمراض نفسية أحيانا، ليستعرضها على الشاشة، ويرصد طرق حلها، كما أنه كان يضع ملاحظاته على السيناريو الذى أمامه ليحوله فى كثير من الأحيان من عمل سطحى إلى فيلم يحمل عمقا إنسانيا وسياسيا أحيانا، فكان قارئا جيدا للروايات العالمية، ومتابعا بشكل يومى لكبرى الصحف المصرية والأجنبية، ولذلك كان الوحيد من نجوم جيله الذى يتمتع بخلفية ثقافية تمكنه من الحديث بفهم ودراية عن كل ما يدور حوله.
تولى أيضا نور الشريف فى عدد كبير من أفلامه مهمة تسليط الضوء على الفساد المجتمعى والعملى من خلال فيلم «سواق الأتوبيس»، إذ شرح من خلال الفيلم الذى يعد أبرز روائع المخرج الكبير الراحل عاطف الطيب، الحالة الاجتماعية للمصريين بعد حرب أكتوبر 1973، وأن كثيرا من المصريين لم يجنوا ثمار هذا الانتصار بسبب المشاكل المادية التى أحيطت بهم، فضلا عن تقديمه نموذجا جيدا، وهو أن نعمل ونجتهد ونكدح حتى لا نحتاج لأحد، وحتى نمر من الصعاب التى نمر بها سواء كانت مديونيات مالية أو مشاكل اقتصادية حتى لا نقع فريسة «تشحت» من الدول الكبرى، وأن يظل المصريون أصحاب الكرامة ولا يتحكم فيهم أحد.
نور الشريف مات وفى جعبته عشرات الأعمال السينمائية والتليفزيونية التى تحتاج إلى كتب عديدة للحديث عنها، فهو من أبرز نجوم جيله الذين أحدثوا تغييرا فى شكل ومضمون الدراما التليفزيونية، رغم أنه فى الأساس وعلى مدار العقود الأولى من مشواره الفنى كان مهتما بالسينما فحسب، ولكن عندما تواجد فى التليفزيون قدم ما جعل الدراما التليفزيونية المصرية الأهم والأبرز فى الوطن العربى والشرق الأوسط، من خلال مسلسلاته الاجتماعية، والتى ما زالت تعيش فى وجدان جمهوره، أمثال «لن أعيش فى جلباب أبى، والرجل الآخر، وعائلة الحاج متولى»، والدينية أمثال «عمر بن عبدالعزيز»، و«هارون الرشيد»، و«رجل الأقدار» الذى تناول من خلاله الفتوحات الإسلامية فى عهد عمرو بن العاص، وغيرها من الأعمال التى لن تموت، بل ستظل تخلد اسمه وتكشف للأجيال المقبلة عظمة نور الشريف.
بقلم عمرو صحصاح