موقع مصرنا الإخباري:
مما لاشك فيه بأن مجمل التطورات التى أحدثها ظهور الفضائيات العربية فى الشارع العربى، وفى وسائل الإعلام التقليدية منذ أوائل العقد الأخير من القرن الماضى يعادل مجمل التطورات التى شهدها الإعلام العربى منذ ظهوره، ولعل هذا النمو المطرد لدور الدراما في حياتنا المعاصرة هو ما أكد تلك الحقائق، حتى بات لمفهوم الدراما دور محوري في حياتنا المعاصرة وسياقاتها الثقافية المجتمعية، حيث يعتبرها أغلب علماء علم الاجتماع المعرفي (ظاهرة من ظواهر التاريخ الأدبي، ووثيقة من وثائق التاريخ الإنساني)، ومع تجسد الأحداث اليومية التي تشكل النواة الأساسية للتاريخ الإنساني، أصبح السرد التليفزيونى هو البديل المثالي لتسجيل حركة التاريخ القادمة من رحم تلك الأحداث.
وإذا كان رمضان قد أصبح مع انتشار التليفزيون هو شهر الدراما بامتياز، فإنه أيضا يمكننا القول بأن هذا الشهر على قدر ما يحمله من زخم روحاني أصبح موسما سنويا لكتابة التاريخ الاجتماعي والثقافي والفني بشكل واضح، ومن ثم أصبح الدراما من ضرورات الأمن القومي في ظل تناميها، ولكن ذلك مشروط بجودة التوظيف الأمثل من حيث الشكل والمضمون لأن تأثير الدراما بفعل التقنيات الحديثة أصبح كبيرا للغاية في الأجيال الحالية، والذي ينبع من أهميتها كمنتج إعلامي يعنى برصد الأحداث وتطوراتها وانعاكساتها على مجمل الحياة العربية العصرية، الأمر الذي أصبحت معه الدراما كمعادل بصري وثيقة تاريخية ومستندا بصريا للتاريخ بتقلباته.
ومع تجسد الأحداث اليومية أصبحت الدراما تشكل النواة الأساسية للتاريخ الإنساني الحديث، حتى أصبح السرد التليفزيونى هو البديل المثالي لتسجيل حركة التاريخ القادمة من رحم تلك الأحداث، جراء تطور صناعة الفعل الدرامي وانعاكساته الواضحة على الحياة العربية في ظل الثورات المشوبة بالتمرد والعصيان بفعل توفر حرية التعبير على مواقع التواصل الاجتماعي التي حولت حياة الإنسان من حياة افتراضية إلى حياة فعلية بفضل التكنولوجيا الحديثة.
وتأكيدا لنبوءة أرسطو في (كتاب الشعر) التي تقول: (إن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت، ولكن الدراما تكتب الأحداث كما كان ينبغي أن تقع)، علينا أن ندق ناقوس الخطر لإيقاظ الضمير ومواجهة أشكال الدراما الهابطة المدمرة والاحتفاء بكل أنواع وأشكال الفن الراقى الذى يعلى من شأن القيمة والمعنى، ويخاطب صناع الفن بوجه عام ، بعد أن عشنا قبل عدة سنوات مضت مواسما درامية في رمضان فوضوية هي الأسوأ من ناحية الموضوعات التي غرقت في براثن العنف والغضب، وسفك الدماء وقتل الآباء وسب الأمهات، وسرقة المليارت، والذهاب بالخيال التجاري الواهي إلى داخل قصور فخمة، أومقاعد وثيرة ومخادع مخملية لاتدنو من قضايا البسطاء والمعذبين في الأرض إلا على جناح العشوائيات، وأوكار المخدرات في تكرار ممل يخاصم جماليات الفن في جوهره الأصيل، وضياع الهوية والوطنية المفقودة في حربنا الحالية ضد الإرهاب، ويصيب الناس في نهاية المطاف بالأذي.
ظني أن المشاعر الدينية التي يستثيرها شهر الصيام تدفع الناس صوب المسلسل التاريخي الذي تسكنه الجذور، ويردد صدي الأجداد ويحفظ ملامح الهوية التي تعرضت للكثير من المؤثرات الخارجية، وفي ظل فقداننا لهذا النوعية من المسلسلات يبقى للأحداث المعاصرة صدى أكبر ومذاق مختلف من خلال الأعمال الاجتماعية والبطولات العسكرية والكوميديا والإثارة والفانتازيا وغيرها، والتي نلحظ تطور صناعتها المذهلة يوميا على مستوى الشكل والمضمون، ومن هنا يطرح السؤال نفسه على الفور: هل الدراما الحالية فعلا قادرة رسم المستقبل المنشود بحسب تعريف أرسطو؟، وهنالك شق ثان للسؤال وهو: هل بمقدورها أن تحدث نوعا من التأكيد على التمسك بالهوية الوطنية.
الواقع العملي يؤكد ذلك قياسا بما عشناه من خلال مسلسلات (رمضان 2018، 2019، 2020) ، وما بعدهم من مواسم طوال السنة، فقد لجأت تلك الأعمال في غالبيتها إلى التأكيد على الهوية في غالبيتها ، كما يبدو ملحوظا في مواسم الدراما الحالية ظاهرة استحواذ النجوم الشبان على سباق المسلسلات بالكامل وهو الأمر الذي يشكل انعكاسات إيجابية على منصات العرض، وكذلك في عادات المشاهدة، ونوعيات الجمهور، وذلك على الرغم من براعة بعضا وليس كل منهم.
لقد أصبح كريم عبد العزيز وأحمد السقا، وأحمد عز وأحمد مكى وأمير كرارة، وياسر جلال، ومحمد رمضان، و يوسف الشريف، وهند صبرى و نيللى كريم ودنيا سمير غانم وعمرو يوسف ومحمد عادل إمام هاني سلامة، وطارق لطفى وعلى ربيع وياسمين عبد العزيز، وريهام حجاج وغيرهم في الدراما ،أكثر جماهيرية من النجوم التقليديين خلال السنوات الخمس الماضية، فأعمالهم لا تحمل مخاطرة إنتاجية، لأنه يتم تسويقها بسهولة، وربما هذا ما دفع المنتجين للاهتمام بإنتاج مسلسلات لهم على حساب النجوم الكبار، وهذا بالطبع لاينفي أن سيطرة الشباب بشكل عام على المسلسلات له تأثيره على نوعية المسلسلات التي تقدم، فمعظمهم يتنافسون في أعمال الأكشن وهذا يجذب فئة الشباب من المشاهدين التي تهتم بمشاهدة المسلسلات على اليوتيوب والمنصات الجديدة، وبالتالي يفقد التلفزيون نسبة من مشاهديه (كما حدث في مواسم رمضان 2017 – 2018 -2019 – 2020)، لأن كبار السن لا يهتمون بمشاهدة نوعية المسلسلات التي يقدمها معظم النجوم الشباب.
وبعد كل ما مضى يتضح لنا بأن الدراما أصبحت من ضرورات الحفاظ على الهوية الوطنية ومن ثم ترقى إلى مستوى الأمن القومي المصري للأسباب التالية:
أولا : لأن الأمن القومي يتمتع بعدد من العناصر المكونة له، والتي عند الوفاء بها على حدة، فإنها توفر الأمن للدولة فيما يتعلق بقيمها ومصالحها وحرية اختيار السياسات بها، وتسرد السلطات على اختلافها هذه العناصر بصورة متباينة، ويتم بشكل شائع أيضا إدراج الجوانب المتعلقة بالسياسة والمجتمع والبيئة والطاقة والموارد الطبيعية والاقتصاد، وترتبط عناصر الأمن القومي ارتباطا وثيقا بمفهوم عناصر القوة الوطنية والتي تلعب القوى الناعمة ومن بينها الدراما التليفزيونية فيها دورا كبيرا، لأنها تخاطب المشاعر وتركز على القيم وتقدم نماذج مثالية في الفداء من أجل الوطن.
ثانيا: كما في حالة القوة الوطنية، يكون الجانب الأمنى هو المهم، ولكنه في الوقت نفسه ليس المكون الوحيد للأمن القومي، وحتى يتحقق الأمن الحقيقي، تحتاج الأمة إلى أشكال أخرى من الأمن الذي تصنعه الدراما على جناح سحر الصورة ومن هنا تختلف السلطات وفقا لخيارات كل منها في تحديد عناصر الأمن القومي للدولة، فعلى مدار سنوات، كان هناك نقد متكرر لاذع لأشكال من الدراما المقدمة، وكانت فى المشهد أيضا أعمالا جيدة الصنع، يعول عليها فى حفظ صورة الدراما المصرية وضمان قوة تأثيرها، محققة جانبا من جوانب الارتقاء بالذوق العام، وتسليط الضوء على المجتمع بالعلاج والإصلاح، وتقديم قدوة جيدة، لنفهم أن المسلسلات تحديدا (باعتبارها الأطول مشاهدة) من أدوات الحفاظ على الأمن الثقافى والاجتماعى والفكرى.
ثالثا: تلعب الدراما دورا مهما في تحصين المجتمع، ليصبح بها العمل الناجح (بمعايير تعزيز الهوية المصرية) تنقية للفكر العام من شوائب الفساد والإفساد، ومواجهة للأفكار المدمرة والموجهة للدولة بكل مكوناتها، كرصاص مغموس (بالسيانيد) إن لم يقتل بالخرق يقتل بالسم، وصولا للحفاظ على الأمن والسلم العام الداخلى، لذا فإنني يقينا أعتبرها واحدة من من أدوات (الأمن القومى المصرى) حاليا، ومما سبق، ستجد هذه المقومات قد تطابقت مع بعض الأعمال الدرامية فى تاريخنا، مثل الأشهر والأبرز مسلسل (رأفت الهجان)، الذى استلهم منه العالم العربى وليس المصريين فقط روح البطولات الحقيقية، وأثار الغيظ والغل فى نفوس العدو وقتها.
وعلى مستوى الصناعة فقد أصبحت تفاصيل (رأفت الهجان) بما فيها موسيقاه، كلاسيكية وأيقونة للمصرية والوطنية، فكان ولا يزال له تأثيره على المواطن وانتمائه، ثم غاب عن المشهد بصورة كبيرة مثل هذه الأعمال ذات الطابع الوطنى الحديث شديد التأثير منذ حلقاته الأولى والتى يلتف حولها المصريون والعرب، بحثا عن روح الانتصار للأرض أو للإنسانية، أو تمسكا بالعقيدة الأزلية (الشرف)، حتى ظهر علينا فى رمضان 2020 ملحمة إنسانية وطنية درامية رائعة تسمى (الاختيار) موثقا لبطولات المصريين جمعاء عبر الجيش المصرى، مجسدا قوة الشهداء والأحياء مثل المقدم الشهيد (أحمد منسى) ورفاقه، رحمهم الله.
رابعا: لقد شاهدت بعينى ذلك الشغف عربيا ومصريا بهذا المسلسل، وليتحقق من خلاله كل ما سبق الحديث عنه من معطيات الأمن القومى وكون الدراما أداة لها، لنشاهد حالة لحمة نفسية وفكرية جديدة داخل المجتمع المصرى، ونرى أيضا حريقا بلا هوادة فى نفوس الأعداء من جماعة الإخوان الإرهابية فيهيمون ويضربون بكراهيتهم على الأرض وفى الفضاء الإلكترونى، لكن ربك بالمرصاد، والمصريون تحصنوا، ولذلك فإن دراما مسلسل (الاختيار) التى صنعت بحرفية عالية فى مجمل تفاصيلها قد تكون لها تكلفة مادية كبيرة تفوق عوائدها، لكنها تحقق مكاسب عظمى فى الحفاظ على الأمن القومى المصرى والعربى أيضا، فالمجد والسكينة لأبطال الوطن، أحياء وشهداء، والنجاح والفخر لكل من قرروا الانتصار لوطنهم بالقوة الصلبة والناعمة وتوثيق شرف البطولات بـ (الاختيار).
والدراما باعتبارها من أهم أدوات القوى الناعمة في وقتنا الحاضر يفترض إخلاصها في اختيار الموضوعات ذات الطابع الاجتماعي المفيد الذي من شأنه علو الشأن الوطني لصالح الوطن، ومن ثم يقع عليها عليها العبء الأكبر في اتساع (مغناطيس الجذب) للطاقات الخلاَّقة لقوى الشباب، عن طريق شن الحرب الثقافية العقلانية لتغيير المفاهيم الوطنية وتشذيبها من كل ما يخالف المنطق والعرف في التراث الديني بالذات ـ وبخاصة نظريات عدم قبول الآخر سياسيا وعقائديا ـ وهى اللعبة التاريخية التي ينتهجها الغرب منذ طرد الاحتلال العسكري من الشرق الأوسط ، فكان الالتفاف عن طريق إثارة النعرات القبلية والطائفية والمذهبية بين الدول العربية والعالم الثالث بوجه عام.. وتلك الأفكار نتمنى تجسيدها واقعيا لأجل غرس كل ما يحض على تقوية الوازع الوطني والارتقاء بالشعور بالذائقة الجمالية وتنمية الثقافة المعرفية بكل الشفافية بأوضاع الوطن وتحدياته الآنية والمستقبلية.