موقع مصرنا الإخباري:
الثقافة هى لسان العالم واللغة التي توحد الشعوب مع بعضها البعض، وهى التي تجعلنا نتقدم خطوات عالمية كبيرة في نقل الرسالة الإنسانية إلى العالم، ولأن لكل بلد قيمه التى يعيش عليها وهى لا تختلف عن القيم الإنسانية العامة المتحضرة، ومصر التى يمتد بها تاريخها لأكثر من سبعة آلاف عام كانت دولة متحضرة تضم بشرا متحضرين قبل الزمان بزمان؛ حيث كان العالم من حولها يعيش حياة الغاب، لقد كانت أول دولة لها قوانينها وقيمها ونظامها وكل من حاربوها فى ذلك الزمن القديم كانوا من الرعاة الرُحَّل أو الرعاع… إلخ، لذا لا أعتقد على الإطلاق أن بلدا من بلاد العالم جُبل شعبه على تقديس الثقافة والمثقفين مثل بلادنا المحروسة.
يقول الدكتور يوسف إدرايس في مقاله المهم الذي أثار جدلا كبيرا في ثمانينيات القرن الماضي بعنوان “أهمية لأن نتثقف ياناس”: (جاء علينا حين من الدهر كانت كلمة مثقف فيه علامة أن المواطن هو فعلًا صاحب مقام رفيع، كان احترام الثقافة والمثقفين جزءًا لا يتجزأ من قِيم شعبنا وتقاليده الراسخة، بحيث إن عامة الشعب حين كانت تريد أن ترفع من قيمة المتعلم أو المثقف تميزه بكلمة أفندي وتُسمي العامل الكفء المثقف أُسطى أو بمعنى حقيقي أستاذ)، وأظنه هنا يشير إلى تلك الفترة التي تولى فيها الراحل العظيم الدكتور”ثروت عكاشة” – الذي نحتفل بمئويته الآن – مسئولية وزارة الثقافة المصرية، فهو يعد واحدا من البنائين الكبار فى الثقافة المصرية، والتى ترعرت فى ظل ثورة 1919 وازدهرت أكثر فى ظل ثورة 1952.
ولعل مشروعات “عكاشة” الثقافية وإنتاجه الثقافى الغزير، هى التي شكلت الوجدان الوطني المصري، فقد كان دائما يمزج فى مشروعاته الثقافية بين الرؤية والإنجاز، وقد ساهم وقوف القيادة السياسية في ذلك التوقيت برئاسة الزعيم جمال عبدالناصر داعمة لجهود ثروت عكاشة في إنجاز العديد من المشروعات، ومن جانبه حينما تولى مسئولية وزاة الثقافة التى كانت تسمى وزارة الإرشاد القومى، جاء “عكاشة” بفكر مختلف عن جيله ومن قبله فقد جاء بثقافة الفن الرفيع، ولم يكن له طموح سياسي، ولكن طموحه كان منصبا على تحقيق إنجازات فى المجال الثقافى.
وعلى الرغم من أصعب فترة فى تاريخ ثروت عكاشة فى وزارة الثقافة فترة 1958 حتى 1962، حيث كان يواجه حربا ضروسا بسبب توليه وزارة الثقافة، والرجل لم يكن أبدا يرغب فى الاستمرار، إلا أنه كان شخصية مقدرة من جانب القيادة السياسية والدليل أنه عندما تقدم باستقالته لجمال عبدالناصر مرات متعددة في تلك الفترة العصيبة من حياته، إلا أن جمال عبدالناصر رفض قبول الاستقالة، وأبلغ عبدالحكيم عامر أن يبلغ ثروت عكاشة أن حكومة الثورة لا تقبل استقالة أي من أعضائها، وبعد غياب حتى لأربع سنوات عاد مرة أخرى للوزارة ليكمل ثماني سنوات بها.
والمتأمل لتلك الفترة في عمر وزارة الثقافة المصرية، سوف يلحظ أنه منذ اليوم الأول لتسلم “ثروت عكاشة” مهام وزارة الثقافة، سعى على الاتصال بكبار المثقفين حتى لا تكون سياسة وزارة الثقافة سياسة فوقية يتخذها الوزير مع نفر من أعوانه، ولذلك رأى بعد عدد من اللقاءات أن أنسب شكل يستطيع من خلاله التعرف على مشكلات الواقع الثقافي في مصر، هو حشد أكبر عدد من المفكرين والأدباء والنقاد والفنانين في مؤتمر عام للثقافة.
كان من نتائج اجتماعاته تلك اكتشاف الرؤية الثقافية كاملة على لسان أصحابها، وكأنه بذلك قد انطوى عزمه على ألا يتخذ قرارا إلا إذا كانت الشورى رائدة له ولغيره، ومن هذا تركزت في ذهنه فكرة ثقافية متكاملة في جملتها وتفصيلها، وهى أنه لا ازدهار لثقافة قومية إلا إذا عبرت بصدق عن فئات المجتمع كله؛ القرية والمدينة، ولا يمكن قيام ثقافة جامعة إلا إذا أتيح للجميع الارتشاف من المناهل الثقافية العالمية، ولا يمكن تصور قيام أي نهضة ثقافية قبل محاولة إزالة الحواجز والحدود بين طبقات المجتمع.
وفوق كل ذلك كان ثروت عكاشة يتمتع بأخلاق الفرسان، شخصا محبا للناس حتى الأشرار منهم، وحتى من أضروه لم يعبأ بهم، فقد كان لديه روح إنسانية شفافة محبة للجمال، فروحه كانت لا ترغب ولا تعبأ برؤية القبح، وهذا ما أدى إلى عدم اهتمامه واكتراثه بأعدائه فلم يكن يستطيع بروحه الإنسانية الراقية تلك أن يحمل ضغينة لأحد، وهو ما ظهر جليا فى كتاباته ومسيرته الشخصية، كان جل همه أن تصل الثقافة إلى القرى والنجوع من خلال قصور الثقافة وبذل فى سبيل تحقيق هذا الإنجاز من خلال قصور الثقافة مجهودات كبيرة، وهنا لابد لي من إشارة واضحة إلى أن فكرة “قصور الثقافة” وجدت مكتوبة فى أوراق ومذكرات جمال عبدالناصر بخط يده، والتى أهدتها أسرته لدار الكتب والوثائق القومية، وهو ما يؤكد أن فكرة “قصور الثقافة” أتى بها جمال عبدالناصر وتلاقى فى الأفكار والرؤى مع الدكتور ثروت عكاشة، الذى أشرف على تنفيذها.
أقام “عكاشة” صروحا ثقافية كبيرة في سجله الحافل بالإنجازات في مجال الفنون بصفة خاصة، فقد ساهم ثروت في (تأسيس فرقة الموسيقى العربية، فرقة باليه القاهرة ومشروع الصوت والضوء)، فضلا عن إسهاماته الكثيرة فى إنقاذ آثار النوبة وتطوير معبد الكرنك ومعبد الدير البحرى، بالإضافة إلى تطويره لأكاديمية الفنون وتطوير عدد من المتاحف على رأسها “متحف مراكب الشمس ومتحف النسجيات وإسهاماته الكبيرة فى تطوير دار الكتب”، وفى نفس الوقت لم يتوقف عن الكتابة والترجمة طوال هذه الفترة ولم يعطله عمله العام كوزير للثقافة أن ينجز إنجازاته الخاصة فى العمل الثقافى من خلال مؤلفات وكتب حيث كتب عن “التاريخ الإسلامى الفن العراقى والفن الفارسى والفن الإسلامى والفن الوصفى، والقيم الجمالية فى العمارة المصرية”.
ويجدر بي هنا أن أسلط أضواء كاشفة على فكر ثروت عكاشة وفهمه لأهمية الفنون، فقد كان للراحل العظيم نظرية حول الفن، ففى كتاباته حول الفنون كان لدية رؤية حول النقد الثقافى، وقد كان يتحدث عن الفنون فى عصر ما ويقدم أسباب تتطور الفنون فى هذا العصر من كل الجوانب الأدبية والفنية والثقافية، ويعتبر ثروت عكاشة واحدا من أهم مؤرخى الفنون حول العالم، ومكانة ثروت عكاشة فى تأريخ الفنون لا تقل أبدا عن مكانة المؤرخ العالمى هاوزر، ولقد كان مهتما بالفلسفة والموسيقى والفنون، فقد كان متذوقا للموسيقى وتناول الموسيقى فى كتاباته ومشروعاته بمختلف أنواعها، وذلك عبر عشرات الكتب التي تزخر بها المكتبة العربية وماتزال آثارها حاضرة إلى وقتنا الحالي.
وفى مجال الأدب كان ثروت عكاشة مولعا بـ “برنارد” شو وترجم عنه الكثير من الكتب، كما كان مولعا بمؤلف الموسيقى الألمانى “فيرنار”، وقد كان مهتما أيضا بموضوع وحدة الفنون باعتبار أن الفنون متكاملة ولا تتجزأ، فيجب أن يكون الفنان عارفا عن فروع الفنون المختلفة، وكان أكثر الناس تخصصا في التخصص ذاته وهو ما نلحظه فى كتاباته عن الموسيقى حول توضيح الفروق بين الموسيقى ذات الإيقاع البسيط، والموسيقى ذات الإيقاع المركب، باعتبار أن الإيقاع هو الوسيط بين الموسيقى والفكر، وقد كان ثروت عكاشة يترجم الأعمال الشعرية المرتبطة بالقطع الموسيقية.
معلوم أن ثروت عكاشة نشأ فى بيت مهتم بالأدب، وبيئة تشجع على القراءة، وكان والده شديد الميل للقراءة، وهو ما شجع عليه ابنه، فكان الأب شغوفا بعميد الأدب العربى طه حسين، وخاصة كتاب “على هامش السيرة”، وربما كان ذلك ما حفز “ثروت” فى صباه على أن يكون صاحب مكتبة على غرار والده المثقف، فكانت ميوله تميل إلى أدب الأساطير، وكان ذلك الأثر الذى تركه فيه كتاب طه حسين سالف الذكر، حيث غرس فيه الميل للأساطير والتنقيب عن سير العطاء شرقا وغربا، وكان أشد ما جذبه هو سيرة الفاروق عمر بن الخطاب ولطالما كان حلم ثروت عكاشة الصغير، حين يكبر هو ترجمة سيرة عمر بن الخطاب إلى الإنجليزية، حيث كان يرى أن أوروبا إذا قرأت سيرته وفعلوا ما قام به لعادوا جميعا مسلمين.
ولأن المقام لايتسع للخوض كثيرا في فكره وآرائه وفلسفته في الحياة والفن والثقافة، أدعك عزيزي القارئ تستمتع أكثر مع قراءة مذكرات ثروت عكاشة، فسوف تجد نفسك مأخوذاً بأسلوب الكاتب، وموسوعيته، وصدقه في الآن ذاته، فالمذكرات تمزج بين السياسة والثقافة، كما مسيرة صاحبها الذي شكل نمطا خاصا، جمع بين “السيف والقلم”، ضابط ثوري أسهم في أحداث غيرت وجه مصر، وربما المنطقة، وتسلم مناصب عدة، من بينها وزير الثقافة لأكثر من مدة، ومع ذلك فقد عكف على دراساته وأبحاثه الخاصة التي شكلت وعي كثيرين.
ونتاج هذا الجهد الثافي الكبير فقد حاز “عكاشة” العديد من الجوائز العالمية والمحلية، ومنها جائزة الدوله التقديرية في الفنون عام 1978 والوسام الإيطالي عام 1959 والقلادة العظمى لوسام أورانج ناسو الهولندي 1961، ووسام الفنون والآداب الفرنسي بدرجة كومندور 1964 والميدالية الفضية لليونيسكو تتويجاً لانقاذ معبدي أبوسمبل وآثار النوبة 1968، ووسام اللجيون دونير الفرنسي بدرجة كومندور 1968، ووسام الوشاح الأكبر الأسباني لألفونس العاشر الحكيم 1968، والميدالية الذهبية لليونيسكو لجهود من أجل إنقاذ معابد فيلة وآثار النوبة 1970، ووسام الشرف الأكبر والنوط الذهبى النمساوي 1970، وكرمته الإمارات بجائزتي العويس عام 2004 ،2005 وجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2007.
وفي مناسبة الاحتفال بمئويته هذا العام لابد أن نشكر الجهود الحثيثة من جانب الدكتورة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة المصرية التي قالت في دار الأوبرا الجمعة الماضية في مناسبة تدشين فعاليات الاحتفال بمئوية أسطورة الثقافة المصرية في العصر الحديث: إنه “فارس الثقافة” الذى يمثل الوجه الجميل لمصر والعبقرية الاستثنائية التى أعادت صياغة وجدان المصريين، إذ أدرك أهمية الإبداع والتنوير فى إحياء الحضارة المصرية المعاصرة، وذلك في تظاهرة فنية راقية على إيقاع موسيقى “ريتشارد فاجنر”، الذى عشقه ثروت عكاشة وألّف عنه كتابا مهما بعنوان: “مولعٌ بفاجنر”، بقيادة المايسترو الكبير “أحمد الصعيدى”، وأيضا عزف “أوركسترا القاهرة السيمفونى” مجموعةً منتقاه من خوالد فاجنر، من بينها المقطوعةُ المحفورة فى ذاكرة كل عشّاق العالم الذين توّجوا عشقَهم بالزواج: “مارش الزفاف”.
ونختم بقول شقيقه د. أحمد عكاشة، بروفسور الطب النفسى: الذي قال في تلك الاحتفالية بدار الأوبرا قبل أيام: لا يتصور المرء كيف كان يمكن أن يكون الوجه الثقافى والفنى الراهن فى مصر لولا هذا الرجل!، نحتفل هذا العام بمئوية مصرى عظيم منح لوطنه وجها حضاريا عصريا يليق باسمها العريق .. كان الخالد الرائد د. ثروت عكاشة موسوعةً بشرية حية تسير على قدمين.. رحم الله ثروت عكاشة، مصباح النور والشعلة ورأس السهم الفعال والمصيب، المنطوي في مكتبه يدون ويخطط وينظم ويرشد ويوجه، المحارب والمكافح والمحافظ والشهيد على طين ورمال وهواء الوطن العزيز، والذي أبدع وخطط للمستقبل الثقافي في مصر، وكان يتشمم بأنفه التيارات الثقافية المعادية والمحطمة، ويعلم جيدا أن بداية أي حرب هي الحرب الثقافية وتفريغ العقول، لذا سعى سعيا حثيثا لصياغة الوجدان الوطني المصري.