رغم أن مؤشرات التنمية لا تمنح موريتانيا رتبا متقدمة في العالم العربي والإسلامي، بل هي مصنفة دائما ضمن الدول الفقيرة، فإنها احتلت رتبة متقدمة في مضمار التبرع لغزة وسكانها منذ اندلاع العدوان عليها قبل أزيد من 9 أشهر. ففي مؤشرات دعم المقاومة تحتل موريتانيا الرتبة الثالثة بعد دول ذات ثراء رسمي وشعبي، لكن موريتانيا تحتل الرتبة الأولى من حيث نوعية الدعم وإبداعية التنافس القبلي، وفق تعبير مبعوث منسقية القبائل الموريتانية الداعمة لغزة الشيخ أحمد بن خيران الحسني. ولا يبدو هذا الموقف جديدا على الموريتانيين، إلا من حيث زاوية التنسيق وحجم الدعم الذي وصل لحد الآن قرابة 10 ملايين دولار، وهو ما يناهز 4 مليارات أوقية موريتانية. ورغم أن هذا الدعم القبلي هو الأوسع في تاريخ البلاد، والأكثر انتشارا وتنافسية، فإنه يتأسس على تاريخ طويل من دعم القضية الفلسطينية، بدأ منذ استقلال البلاد سنة 1960، ونضالها من أجل اعتراف عربي بها، وهو مالم يتحقق قبل سنة 1974. ووصل الأمر بالرئيس الموريتاني الأسبق المختار ولد داداه حد قطع علاقات بلاده بالولايات المتحدة بعد حرب النكسة عام 1967، بينما كان لجواز السفر الموريتاني دور خاص في تسهيل حركة قادة كبار من منظمة التحرير الفلسطينية. وخلال تلك الفترة أسهم ضباط فلسطينيون بدور مهم في تطوير جهاز الشرطة الموريتانية، ومن أبرز العناصر التي عملت في موريتانيا اللواء جبريل الرجوب الذي كان ضابطا متعاونا مع إدارة الأمن في موريتانيا خلال ثمانينيات القرن المنصرم. انعطافة نحو التطبيع وستكون المحطة الأكثر صعوبة في العلاقات مع منتصف التسعينيات إلى سنة 2008، حيث تحول مسار العلاقات من الممانعة إلى التطبيع الذي تدرج من مكتب لرعاية العلاقات بين البلدين عبر سفارة إسبانيا، قبل أن ينتقل إلى التطبيع الكامل نهاية العام 1999. وطوال عقد تقريبا ظلت موريتانيا الشعبية بؤرة اشتعال ونضال متواصل، بلغت أوجها مع الفتوى الشهيرة للشيخ محمد الحسن ولد الددو بحرمة التطبيع مع إسرائيل، وهي الفتوى التي سلمها كبار علماء موريتانيا، وألقت بالشيخ الددو في سلسلة اعتقالات متقطعة منذ العام 2003 إلى خروجه من السجن سنة 2005، عقب الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع. وبعد نحو عقد من انطلاقه، توقف مسار التطبيع بين موريتانيا وإسرائيل، بتجريف الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز لمقر السفارة الإسرائيلية في العاصمة نواكشوط، لينطلق بعد ذلك مسار آخر من التقارب بين النظام الموريتاني الرسمي وفصائل المقاومة وخصوصا حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي بات لها في الآونة الأخيرة ممثل رسمي في موريتانيا هو القاضي محمد صبحي أبو صقر، وقد تحول منذ بدء العدوان على غزة إلى أحد الأوجه الأكثر نشاطا وحضورا في الإعلام الموريتاني، خصوصا بعد أن أصبح ضيفا ثابتا على القبائل الموريتانية التي تحرص على أن يكون أبو صقر ضيف احتفالياتها لدعم فلسطين وشاهد تسلم أموال المتبرعين. 10 ملايين دولار من 12 قبيلة استطاعت مجموعة من القبائل الموريتانية جمع تبرعات وصلت إلى حوالي 10 ملايين دولار، في مبادرة فريدة من نوعها في العالم العربي، ويرى مبعوث منسقية القبائل الموريتانية الداعمة لغزة الشيخ أحمد بن خيران، أن هذه المبادرات تتأسس على “عمق الوعي السياسي في موريتانيا، ومركزية كبيرة للقضية الفلسطينية، التي تتقاطع فيها المواقف والرؤى والتيارات الفكرية، ويجمع الموريتانيون عليها بأطيافهم المختلفة، وباجتماع هذين المعطيين، يكون الدعم الشعبي الموريتاني مسألة متوقعة، عزز منها تدفق المعلومات، وحجم ما كشفت عنه المجازر الإسرائيلية من عدوان فظيع. ومن عمق هذه المأساة وذلك الوعي جاءت ما وصفها بن خيران بالفكرة الإبداعية ذات البصمة الموريتانية، المعبرة عن النسيج الشعائري الشنقيطي، كما تميزت ساحات أخرى بمبادرات ذات نمط مختلف. المبادرة الحسنية.. بداية التنافس ووفق الشيخ أحمد بن خيران فقد كانت الشرارة الأولى “عبر مبادرة مجموعة من النشطاء من قبيلة “تندغة”، وإذا كانت هذه الفكرة محدودة، فإنها كانت بذرة مهمة، لكن الانطلاقة الفعلية كانت عبر المبادرة الحسنية التي دعا إليها ونسقها رئيس المنتدى الإسلامي الشيخ محفوظ بن الوالد، وقد كان حجم الاحتفاء وسقف المبلغ المعلن عنه يومئذ 100 مليون أوقية موريتانية (حوالي 253 ألف دولار) الفاتحة الفعلية لهذا المبادرة الفعالة. وقد كان لإعلان هذا التبرع في مهرجان علمي وأدبي، وإشادة العلماء بهذا الموقف، وخصوصا الشيخ محمد الحسن بن الددو الذي حيا قبيلة بني حسن بقصيدة رائعة، دور أساسي في إطلاق مضمار التنافس الراقي في دعم غزة. وما إن ذاع شأن المبادرة الحسنية، حتى بدأ ميدان التنافس، فكانت كانت المبادرة الثانية مبادرة قبيلة لقلال، حيث تبرعت بـ220 مليون أوقية (حوالي 558 ألف دولار)، ثم مبادرة شرفاء تنواجيو الذين تبرعوا بمبلغ 300 مليون أوقية (حوالي 761 ألف دولار). قبيلة البصاديين الأنصار (إديبوسات) تتبرع لغزة بنصف مليار أوقية قديمة المصدر: الشيخ محمد لأمين محمد عبر الفيسوك ممثل حركة حماس في موريتانيا محمد صبحي أبو صقر (وسط) يتسلم تبرعات إحدى القبائل (التواصل الاجتماعي) ثم كانت القفزة النوعية بمبادرة قبيلة أولاد أبيري الذين رفعوا سقف التبرعات إلى 500 مليون أوقية (حوالي مليون و269 ألف دولار)، ثم ارتفع السقف بعد ذلك مع قبيلة تاكنانت ليصل إلى 600 مليون أوقية (حوالي مليون و522 ألف دولار)، ثم وصل مع قبيلة تجكانت إلى 620 مليون أوقية (حوالي مليون و573 ألف دولار). وبشكل عام فإن هذه المبالغ تمثل رقما عاليا بالنسبة للشعب الموريتاني الذي يعيش عدد كبير من أبنائه تحت خط الفقر. وضمن هذه الدعم النوعي، جاءت مبادرات أخرى متعددة، مثل مبادرة قبيلة أولاد عمني، ومبادرة القبائل الشمشوية، ومبادرة الشرفاء العلويين التي وصلت إلى قرابة 250 مليون أوقية (حوالي 634 ألف دولار). ثم جاءت مبادرة الأنصار البوصاديين، بسقف بلغ 502 مليون أوقية قديمة (مليون و320 ألف دولار) وهو مبلغ عال جدا، وتمتاز قيمته بأنه جاء بالفعل بعد ساعات قليلة من تشكيك بعض المغرضين في وصول المال الموريتاني إلى غزة. التنافس القبلي لدعم أهل غرة يثير جدلا في موريتانيا ممثل حركة حماس في موريتانيا محمد صبحي أبو صقر (يسار) يتسلم تبرعات إحدى القبائل (الجزيرة) وفي الأفق بعض المبادرات القبلية الأخرى التي ما زال مضمار تبرعها مفتوحا بعد أن جمعت مبالغ معتبرة، لكن سقف السمو الذي يرغب فيه أفرادها ما زال يستمطر التبرع والدعم والسخاء من عناصرها. وبشكل عام فإن فكرة تبرعات القبائل -وفقا للشيخ أحمد بن خيران- تفتح باب “مجد” جديد تضيفه القبائل الموريتانية إلى تاريخها المفعم بالمآثر في خدمة الإسلام ونشر العلوم والكرم والشجاعة والسخاء والبذل. حسابات آمنة ودعوات للحض على الإنفاق يمر جمع تلك المبالغ قبل تسلميها لسفير حماس، من خلال إجراءات احتياطية لفرض أعلى مستويات الأمانة والحماية، وكانت المرحلة الأولى بفتح حسابات بنكية باسم مجموعة من الأشخاص الموثوق بهم لدى قبائلهم، ويشترط لصرف رصيد هذا الحساب توقيع الأشخاص المحددين بشكل جماعي. ويضيف الشيخ خيراني في حديثه للجزيرة نت أنه إلى جانب ذلك تبدأ مجموعة أخرى من الأفراد والشخصيات العلمية والأدبية والقيادات المجتمعية حملة تعبئة داخلية، لرصد تبرعات الأفراد والأسر داخل القبيلة، وهو ما يخلق تنافسا داخليا أيضا، مع الرصد المتواصل لمؤشر الإنفاق، حيث يتنافس الأثرياء المنفقون والفقراء المؤثرون. أما المرحلة الثالثة فهي تسليم المبلغ المتحصل عليه إلى الجهات الموثوق بها، وهي 3 جهات متكاملة هي الرباط الوطني لنصرة الشعب الفلسطيني، والمنتدى الإسلامي، إضافة إلى ممثل حركة المقاومة الإسلامية حماس محمد صبحي أبو الصقر، الذي أضفى وجوده في موريتانيا درجة عالية من الموثوقية في وصول تبرعات الموريتانيين إلى الجهة المعنية لهم. قبيلة تنواجيو تتبرع بمبلغ 300مليون لغزة المصدر: عبدالله محمد عبر الفيسوك الأمين العام للرباط الوطني لنصرة فلسطين (يسار) يتسلم تبرعات إحدى القبائل (التواصل الاجتماعي) ثورة في الإنفاق الشنقيطي يصف الشيخ أحمد بن خيراني المبادرات القبلية الموريتانية بأنها إحدى كرامات طوفان الأقصى، وقد كان الحجم المذكور أكبر سقف تبرع في تاريخ الشعب الموريتاني. ويضيف مبعوث منسقية القبائل الموريتانية الداعمة لغزة أن “هذه المبالغ هي أعلى سقف جمعته هذه القبائل حتى بالنسبة لقضاياها الخاصة، وهو ما يعني أن حركية الإيمان في قلوب الموريتانيين، وحجم التنافس القبلي كان فعالا بالغ الأهمية، حيث يمكن اعتبار موريتانيا الآن ثالث أكبر داعم شعبي للأخوة المصابرين في غزة، ورغم ذلك فإن القبائل التي جمعت التبرعات لموريتانيا لم تتجاوز لحد الآن 12 قبيلة، في حين يتوقع أن تعلن 10 قبائل أخرى عن تبرعات جديدة، وأن تلتحق قبائل أخرى بسباق الإنفاق”. شبهات وعقبات وقفت في وجه فعاليات التبرع تحديات متعددة، من أبرزها وفق ما يرى الشيخ أحمد الحسني: شبهة الحمية والتنافس القبلي: حيث كان بعض الأفراد يعتبرون أن الجمع باسم القبائل لا يخرج عن الحمية الجاهلية، وقد رد على تلك الشبهات الشيخ أحمد مزيد بن عبد الحق على ذلك، مستعرضا بيعة النبي صلى الله للقبائل بأسمائها، واستقباله لوفودها وكانوا يقاتلون براياتهم تحت رايته الشريفة، وهو ما يعني أن الإسلام لا يرفض القبيلة والآصرة الاجتماعية من حيث المبدأ، بل يتحدد الموقف من خلال مستوى ومجالات توظيف القبلية والأواصر الاجتماعية، في مجال البر والتقوى، وفي هذا السياق يرفع التاريخ قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه “لترني كل قبيلة بلاءها”. إشكال الأولويات المحلية: وذلك في التصدي للدعاية التي تقول إن الموريتانيين الجوعى أولى بتلك التبرعات من غيرهم، وقد رد العلماء والفاعلون في هذه المبادرات على هذه الشبهة بأن هذا الإنفاق قائم على الإيثار وأن الفقراء الموريتانيين أكثر المتبرعين في هذا المجال. ينضاف إلى ذلك شبهة أخرى وهي التشكيك في وصول هذه الأموال، وهو ما ردت عليه مقاطع الفيديوهات الواضحة من داخل غزة، التي تؤكد أن الدعم الموريتاني لغزة قد وصل بالفعل، فضلا عن تصريحات قادة المقاومة بشأن وصول المال الموريتاني. هل تحذو القبائل العربية حذو موريتانيا يرى الشيخ أحمد ولد خيراني أن مبادرة تنسقية القبائل الموريتانية هي نموذج قابل للاحتذاء في أكثر من بيئة عربية، داعيا البلدان التي لا تزال تتمتع ببنية عشائرية إلى انتهاج أسلوب القبائل الموريتانية في جمع التبرع وإيصاله. ويرى ولد خيراني أنه ما من شك في أن امتداد الحراك القبلي الداعم لغزة ماليا إلى بلدان عربية وبيئات مشابهة من شأنه أن يرفع التبرعات لسكان غزة إلى أرقام فلكية، ويحولها إلى ما وصفه بـ”طوفان مالي” لإسناد طوفان الأقصى.
المصدر: الجزيرة + مواقع التواصل الاجتماعي