انقضت حوالي 9 أعوام على هذا الموقف الذي ودعني به أبي وكانت المرة الأخيرة التي رأيته فيها قبل وفاته في أول سبتمبر عام 2012..
حتى الآن لا أعرف لماذا تصرف معي “عم علي” مثل هذا التصرف قبل أن يصافحني ويأخذني في حضنه استعدادا لعودتي مرة أخرى الى القاهرة بعد الاجازة القصيرة المعتادة كل عدة شهور الى ” البلد” لرؤيته ومجالسته مع الاشقاء والشقيقات بعد رحيل الأم قبل ذلك بحوالي 4 سنوات.
رغم رحيل شقيقة روحه ورفيقة عمره وسنده في مشوار كفاحه ومعاناته الذى استمر أكثر من نصف قرن، أصر أبي أن يبقى في بيت العائلة وحيدا- وان كان دائما ما كان يخبرني أنه معها لا يشعر أنه وحده ابدا، في الصباح يصحو على صورتها يتأملها ويلقى عليها تحية الصباح، وفى الليل يجلس على كرسيه العتيق المتهالك في الشرفة- البلكونة- يحكى لها ما جرى ودار طوال اليوم . يستمر الحوار الذى يتخيله حتى يتنفس الصبح مع آذان الفجر.
لم أكن قادرا نفسيا على تحمل زيارة المنزل ورؤيته من الداخل بعد غياب صاحبته وسيدته وبركته وفرحته وبهجته.. في كل مرة أزور فيها البلد. واستحثه أن يقضى معي أيام الاجازة القصيرة في منزل الشقيقة الكبرى ” نجاح” التي كانت – ومازالت- بالنسبة لي بمثابة الأم الثانية
وكان يستجيب على مضض واشعر بضيقه وضجره بعد مبيت أول ليلة عند ” نجاح” ويبدأ في التململ وإظهار القلق من غيابه عن بيت العائلة الفارغ الا من روح سيدته ووتده التي تنتظره كل ليلة ليبدأ معها أحاديثه الليلية.
استمر الأمر هكذا لسنوات ما بعد رحيل الأم حتى كانت المرة الأخيرة التي رأيته فيها في آخر أيام شتاء 2012. استيقظت مبكرا لآراه جالسا وحده في الصالة يميل برأسه على كفه كأنه يعاتب نفسه على مخالفة وعده لها بالبقاء خارج البيت ولو لليلة واحدة
قبلته وتناولنا الإفطار سويا وارتديت ملابسي. صافحنى وأخذني في حضنه بقوة هزتني للحظة ثم فجأة أخرج من جيبه 100 جنيه جديدة بدت وكأنه جاء بها للتو من مطبعة البنك. دفع بها الى كف يدي واصر أن ابقيها معي تفاديا لمفاجآت السفر..!
“خير يا عم علي ليه كده…”. أخرجت كل ما معي من أموال لأظهر له ان معي فلوس كتير. فقد مضى زمن طويل وبعد تخرجي و عملى – الذى كان متقطعا بين صحيفة وأخرى- كان الاتفاق غير المكتوب بيننا الا اخذ منه أية مصاريف آخرى واثبات جديتي في تحمل المسئولية في الغربة وفى مدينة مثل القاهرة باتساعها وقسوتها
لكن هذه المرة لم أفهم سر هذا الموقف. وكدت أن أبكى من غرابته ودهشته وفى الأخير رضخن طائعا لرغبته وطويت المائة جنيه في يدي وسلمت عليه بحرارة وودعته مع أختى وابناءها وأسرعت خارجا للسفر الى القاهرة. طوال الطريق من دسوق الى القاهرة لم يشغلني شيئا سوى التفكير في حادثة الـ100 جنيه. ماذا أراد عم على أن يوله لى دون كلمات من هذا الموقف. ما السر وما الأسباب وما الرسالة ..أسئلة كثيرة تاه فيها عقلي وملأت الدموع عيني ولم أجد إجابة.
هل عادت به الذاكرة الى أيام الجامعة ورأني فيها . ابنه الصغير الذى اعتاد منحه مصروفه اول كل شهر عند ذهابه للجامعة في القاهرة. هل نسى انني أصبحت صحفيا وأتقاضى راتبا معقولا جدا واصبح لدى اسرة ومنزل. هل أراد أن يؤكد على انني مازلت عادل الصغير في عينه .. وهل.. وهل لا أدرى حتى الأن سوى أنها كانت المرة الأخيرة التي رأيته فيها.. ونظرت فيها الى عينيه وضمني اليه بشدة.
لا أنسى هذا الموقف ولا أعرف سره وسببه من هذا الرجل الذى رباني وعلمني الكثير في حياتي..والذى مازلت أراه أكثر علما رغم عدم التحاقه بالتعليم. خبرته بالحياة وتكبده مشاقها ومتاعبها ليربى سبعة أولاد جعلتني أتعجب من قدرته على إدارة شئون هذه الاسرة ومعه هذه السيدة الوتد ..أمي التي أيقن هو في لحظات مرضها الأخير وهو يبكى أمامي أنها كانت ” السد العالي” الذى حمى كيان هذه الأسرة ..أسرة على السنهوري.
حكايات وحكايات سيأتي يوما لسردها ورصدها عن ذلك الرجل الذي اشتاق اليه كثيرا جدا
أقول لك يا عم علي بمناسبة عيدك ” وحشني بجد .. وليه بجد .. وانت عارف انك وحشني بجنون وانت هناك من سنين وحشنى يا عم على ..وحشني يابا .ومشتاق أشوفك وعيني يرجع لها النور واللمعة من تاني وأنا في حضنك..وحشتنى كل حاجة فيك ..وحشتني طيبتك وحنيتك ..وحشتني حتى لحظة قسوتك ..وحشتني نظرة عينيك اللى بتربي.. وقلبك الحنين اللى بيخبي
وحشتنى هيبتك ..وحشنى صوتك وصمتك …وحشتنى كل حاجه منك..كل حاجة فيك..”
بقلم
عادل السنهورى