موقع مصرنا الإخباري:
لم يظن أي متشائم أن يصل الأمر بأن يُقتحم الكونجرس لتعطيل مسار ديمقراطي، فحتى الخيال الهوليوودي لم يوصلنا لهذا الاحتمال ليكون حقيقة، يبدو أن “فوكوياما” كان مصيبًا عندما تحدث عن تآكل الديمقراطية الغربية، بعد سنوات من كتابه الأشهر: ” نهاية التاريخ”، فالحضارة الغربية التي وصلت ذروتها، قد لا تنهار، ولكن ستبدأ ديمقراطيتها في التآكل.
ترامب كان تعبيرًا عن هذا التآكل في الديمقراطية الأمريكية، فهذا المجتمع الخائف المذعور قرر قبل 4 سنوات أن يختار ذلك الأحمق الشرير كما وصفه الكثيرون؛ ليكون رئيسًا لسيدة الديمقراطية في العالم، كما تروج عن نفسها، أو بمعنى أدق رئيسًا لهذا العالم.
المجتمع الخائف من التغيير الاجتماعي “تحول البيض لأقلية”، والذعر من المهاجرين، وكراهية المسلمين والسود، والخوف من الإرهاب، هو الذي جاء بهذا المعتل، في اختيار قد يناسبه وصف المؤرخ إدموند مورجان في كتابه: “اختراع الشعب” بأنه لحظة عن “التفسخ والفساد بحيث يعهد بمواقع السلطة والثقة لأشرار لا يستحقون شيئًا”.
لحظة تفسخ أثارت نعرات لم تعتدها أمريكا، وناضلت عبر عشرات السنين لتنهيها، في طريقها لخلق مجتمع عالمي متعدد الأعراق، يحمي الأقلية قبل الأغلبية، عبر ديمقراطية ليبرالية تنتصر للفرد وتساوي بين الناس، وهو ما نص عليه دستور وتشريعات، في منتهى القسوة تجاه العنصرية والتمييز وغلبة الأكثرية.
ما حدث في أمريكا هو انعكاس لظاهرة تصدع الحقيقة التي أصبحت “حقيقة عالمية”، لكنها تبرز في الولايات المتحدة التي تصدر للعالم كل شيء بدءًا من المنتجات حتى الأفكار، فهي ظاهرة مرتبطة بكونها مركز العالم ومستقر الإنترنت والتكنولوجيا للبشرية.
مفهوم عبرت عنه مؤسسة راند في إصدارها المهم “تصدع الحقيقة” قبل عامين الذي بدا صرخة في الأوساط الأمريكية عن تهديد الديمقراطية والسياسات العامة، ويعرف هذا التصدع بأنه يمثل اتجاهات أربعة هي:
أولًا: الاختلاف المتزايد بشأن الحقائق والتفسيرات التحليلية للبيانات مثل: “الخلاف حول استخدام اللقاحات، والصراع العلني بين ترامب وفاوتشي مستشاره الوطني الأول في أزمة كورونا”.
ثانيًا: الخلط بين الرأي والحقيقة وعدم وضوح الفارق بينهما، مثل: “ما يحدث في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي”.
ثالثًا: زيادة معدل الرأي والتجربة الشخصية بما يمثله من زيادة احتمال تعرض الجماهير للأباطيل والهواجس، ولا يوجد مثال أفضل من: “تصريح ترامب عن شرب المطهرات لقتل الفيروس”.
رابعًا: انخفاض الثقة في المؤسسات التي كانت تحظى في السابق باحترام كمصدر للمعلومات الواقعية مثل: “الحكومة، ووسائل الإعلام”.
تصدع الحقيقة تكرر في الماضي غير أنه لم يكن بهذه الصورة الحالية، ففي التاريخ الأمريكي، ظهر في ثلاث مناسبات:
1- في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر في وقت صراعات انتشار الصحف وظهور الصحافة الصفراء.
2- في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، فترة الكساد الاقتصادي الكبير، ظهور صحافة الإثارة أو ما يسمي بصحافة الجاز وبداية البث الإذاعي.
3- ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، سنوات حرب فيتنام وانسحاب الولايات المتحدة منها، والانشغال وقتها بالدعاية الحكومية والإعلامية ونهضة الصحافة الاستقصائية في مواجهتها.
تصدع الحقيقة في هذه المناسبات الثلاث لم يكن بهذه الصورة الحالية، فقد ساهمت التكنولوجيا بشكل أكبر في زيادة الأثر وانتشاره.
ترامب كان في خضم هذه الظاهرة، ومثّل تكريسًا أصيلًا لنسختها الجديدة، أضافت له وأضاف لها، فقد أضر بشكل بالغ بالمؤسسات السياسية والمدنية الأمريكية، وقد تسبب بكل ما يفعله في تصدع الحقيقة من:
– تآكل الخطاب المدني أي الخطاب العام البناء الشفاف النزيه المتماسك الذي يغلب المصلحة الوطنية، لم يكن الخطاب الأمريكي بهذه الصورة من السوء والحزبية والاستقطاب منذ زمن.
– الجمود والتأزم السياسي، كما حدث في أكثر من ملف، مثل: “تأجيل التعيينات أو القرارات السياسية، حزمة مساعدات كورونا الأخيرة، أو إقحام تابعين له في المحكمة العليا أو إصدار قرارات عفو من مقربين متورطين في قضايا جنائية وسياسية”.
– العزلة في المجتمع وتكريس الانقسام والتكتل للأفراد وراء مجموعات تتوافق معهم على أساس العرق أو الدين، كما اتضح في: “اضطرابات مقتل جورج فلويد، واحتجاجات حركة “حياة السود مهمة””.
– الشك الوطني، وهو غياب اليقين في السياسات سواء على المستوى الوطني أو الدولي، وهو ما يحمل عواقب وخيمة سواء بالتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية، حتى تصاعد حدة الصراعات الدولية، وقد كان مشهد الانتخابات والتشكيك فيها ومحاولة الانقلاب على نتائجها دليلًا ساطعًا على تأثيرها الفادح، والذي انتهى إلى المشهد غير المسبوق باقتحام الكونجرس.
الماضي قد يوفر حلولًا كما ترى مؤسسة “راند” لمواجهة تصدع الحقيقة مثل: “نهضة مهنية في الصحافة والإعلام، وسيادة التحليل السياسي القائم على الحقائق، والاهتمام المتجدد بإخضاع السلطات للكثير من المساءلة، وتوضيح الخط الفاصل بين الرأي والحقيقة، وبذل الجهد لاستعادة الثقة في المؤسسات العامة، وتهدئة الاضطراب الاجتماعي والسياسي”.
التهديد الذي مثّله ترامب للديمقراطية الأمريكية ليس موجهًا فقط للإضرار بالتداول السلمي للسلطة، بل أيضًا كان طعنة في قلب القيم الأمريكية، واهتزاز صورة أرادت دوما تكريسها عن نفسها، بكافة الصيغ وأولها الصيغة الهوليوودية.
لم تتصدع هنا الحقيقة فحسب، بل كانت مثل المآسي الإغريقية، التي يتعذب فيها البطل للأبد، فرغم أن الديمقراطية لملمت فوضاها وانتصرت في النهاية، غير أن المشهد لهذا المواطن الأمريكي “ذي القرنين”، لن تنساه ذاكرة البشرية وهو ينتهك قدس أقداس ديمقراطيتهم، حيث يتم التحكم في مصير العالم ومساراته.