منذ يومين احتفل عشاق ومحبو العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ بذكرى ميلاده الـ92، حيث ولد حليم فى 21 يونيو من عام 1929. وبالنسبة لى فأنا واحد من هؤلاء العشاق والمتيمين بحليم.. فهو الصوت الذى تربت عليه ذائقتنا السمعية وذوقنا الفنى ونضجت عليه مشاعرنا البريئة فى الحب البريء فى صورته الطفولية الأولى.. وأغانيه كانت خير سند ومعين فى التعبير عن المشاعر تجاه المحبوبة فى خطابات الورق زمان التى كانت ترسل عبر الكراريس والكتب المدرسية أو عبر بلكونات الجيران أو بواسطة الأطفال الصغار فى الشارع أو الحارة. وكانت أيضا الملاذ فى التعبير عن هجر وظلم الحبيب للمحبوب.
أفلام حليم –الـ17 ونصف فيلم- كنا نحفظها ظهرا عن قلب بتفاصيلها الدقيقة وأماكنها وملابس أبطالها حتى نستطيع تقليدها وشراءها لأنها كانت متاحة للجميع. لكن كانت الأماكن كلها التى تم تصوير تلك الأفلام بعيدا عن المتناول وإمكانية الذهاب اليها سواء فى القاهرة أو الإسكندرية.
كان الشغف بحليم شيئا لا يوصف وبكل ما يقوم به وكان منتهى الأمل لنا –الجيل الذى ولد فى منتصف الستينيات- أن نحب على طريقته وتظلمنا الحبيبة ونرتدى مثل ملابسه ثم –وهذا كان الحلم الأكبر- أن نزور الأماكن التى جلس فيها وغنى فيها لفتياته وبطلاته وظل الحلم بداخلنا – وبداخلي- ينمو ويكبر حتى تحقق بعد أن كان مستحيلا فى الصغر.
فى سنوات الثمانينيات الأولى، كانت أول مرة أرى فيها مدينة القاهرة، الحلم الذى كان يبدو تحقيقه مستحيلا بالنسبة للصغار خارج العاصمة المهولة بزحامها وبريقها ووهجها المسائى، ونيلها الأسطورى ومبانيها التاريخية الفاخرة وفنادقها الفخمة، حلم زيارة القاهرة، والذهاب الى أماكن عبد الحليم حافظ ظل يراود الخيال حتى تحقق بالتحاقى بكلية الإعلام جامعة القاهرة.
هنا القاهرة.. التى شاهدتها فى أفلام عبد الحليم حافظ أو حليم، معشوق جيل الستينيات والسبعينيات.
مع بداية أيام الاستقرار-تقريبا فى بدايات عام 83 – فى القاهرة عقدت العزم زيارة كل مكان جلس فيه حليم.
فى ميدان الأوبرا.. وعلى طرفه كان يقع كازينو صفية حلمى البديع قبل هدمه بعد ذلك ليحل محله مول تجارى وسينما ثم مسرح. هنا جلس حليم مع العظيم محمود المليجى فى فيلم «أيام وليالى» إنتاج 1955، إخراج هنرى بركات، تأليف يوسف جوهر، بطولة عبد الحليم حافظ، إيمان، أحمد رمز-وكاميرا عاطف سالم تبرز مفاتن قاهرة الخمسينيات.. فى الخلفية على أقصى اليمين أوبرا القاهرة القديمة والنافورة الشهيرة وتمثال إبراهيم باشا «أبوإصبع».. جلست فى الساحة الخارجية للمقهى العتيق، وبالقرب من السور الخارجى فى ذات المكان واحتسيت القهوة لأول مرة فى حياتى فلم تكن مشروبى المفضل، لكن كله عشان خاطر عيون حليم.
بالمناسبة كازينو صفية حلمى كان مكانا جاذب لتصوير العديد من الأفلام المصرية فى زمن الأبيض والأسود وربما أشهرها فيلم”إحنا التلامذة ” عرض عام 1959، بطولة عمر الشريف وشكرى سرحان ويوسف فخر الدين وتحية كاريوكا، ومن إخراج عاطف سالم.
وللتاريخ والتذكرة به فالسيدة صفية حلمى هى راقصة المبدعة والمغنية الجميلة هى واحدة من فرقة بديعة مصابنى ولدت فى 17 يونيو 1918، وبدأت عملها فى السينما وحصيلة أعمالها السينمائية 30 فيلم كان اولها فيلم “الحب المورستانى” سنة 1937 وآخرها فيلم “ريري” واسمه أيضا “بنات بحري” عام 1968 حيث مثلت فيه كضيفة شرف. وقدمت أيضا فى خلال مشوارها الفنى الكثير من الأغانى والمنولوجات بعضها سجلته أفلامها.
وعندما تركت بديعة مصابنى مصر بعد أن تراكمت ديون الضرائب عليها، وورثت صفية حلمى مسرحها وفرقتها وبها عدد كبير من الفنانين منهم الموسيقار المعروف محمد الموجى وأسست أيضا فرق فنية فى كازينو كان يسمى باسمها “كازينو صفية حلمى” وكان يتكون من دورين وكانت الناس تعرفه باسم “كازينو الأوبرا” و”كازينو بديعة” وأشهر رواده كان أديب نوبل “نجيب محفوظ” الذى كان يتردد عليه فى كل جمعة.. وتوفيت صفية حلمى فى 1 يناير عام 1981.
ويحكى إبراهيم العسال أحد مصورى حديقة ميدان الأوبرا عن الكازينو أنه «كان أكثر جمالًا وكان السياح يأتون لالتقاط الصور بجوار تمثال إبراهيم باشا، وكان أمام ميدان الأوبرا التى حرقت فى ظروف غامضة ومكانها الآن جراح الأوبرا والمقر الإدارى لمحافظة القاهرة، وإلى جوار مبنى الأوبرا كان يوجد كازينو «صفية حلمي».. الذى أقيم مكانه مبنى كبير لمول تجارى بعد أن اشتراه أحد التجار منذ 25 عاما
فى وسط الميدان وقفت أمام تمثال إبراهيم باشا ابن محمد على باشا، الذى كان، يقف بشموخ، ممتطيا فرسه ومكتوب بخط كبير على قاعدة التمثال، «قاد جيشه من نصر إلى نصر»، وتحتها قائمة بالمعارك التى انتصر فيها بداية من معركة الدرعية 1818، وانتهاءً بمعركة «نزيب» 1839،
خلف التمثال كان «جراج الأوبرا»، المبنى على أنقاض دار الأوبرا القديمة التى استمد الميدان اسمه منها، والتى تم افتتاحها عام 1869، كأول دار أوبرا فى أفريقيا والشرق الأوسط، والتى التهمها حريق كبير عام 1971، سارعت المحافظة لتحويلها إلى موقف أوتوبيس ثم لاحقاً إلى مبنى إدارى وجراج بدلاً من إعادة بنائها، فى خطوة اعتبرها الخبراء كارثة معمارية وحضارية.
كانت هناك مقهى “متاتيا” التى كانت تقع فى ميدان “العتبة” وكان أشهر من يجلس فيه: “جمال الدين الأفغانى” والإمام “محمد عبده” والزعيم “سعد زغلول” والمحامى الشهير وقتها “إبراهيم الهلباوى” وبعد ذلك تردد عليه: “عباس العقاد” و”إبراهيم المازنى” والشيخ “فهيم قنديل” الذى أسس جريدة “عكاظ” وكان يوجد فى ركن خاص من المقهى مطعم صغير للفول والطعمية.
ميدان الأوبرا كانت من معالمه محطة أو مكتب مصر للطيران، حيث يتجمع المسافرون لينتقلوا بأتوبيسات الشركة من والى المطار كما ظهر فى فيلم (يوم من عمرى) -تم إنتاجه عام– بطولة 1961 عبد الحليم وزبيدة ثروت وعبد السلام النابلسى ومحمود المليجى وزكى طليمات.
وكانت الزيارة لحلوانى «هارون الرشيد» بجوار مقر مصر للطيران. صعدت إلى الدور الثانى حيث جلس حليم وزبيدة ثروت بعد هروبها من والدها الثرى . جاءنى النادل . عجوز أسمر نحته الزمن. وقبل أن أنطق بادرنى: «أيوة أنا سيد اللى ظهرت مع عبدالحليم فى فيلم يوم من عمرى مع زبيدة ثروت وعبدالسلام النابلسى».. دار حوار سريع عن الحلوى التى تناولها حليم مع جميلة الجميلات زبيدة ثروت.. «قطعة بسبوسة وكنافة»، كلمنى عن معملة حليم له وكرمه وذوقه العالى وعطفه .طلبت نفس طلب حليم، وجلست مع صديقى طارق بركات نستعيد ذكريات الفيلم، ونطالع النافورة والتمثال الذى وضع الإهمال ومرور السنين بصماته عليهما بعد أن احترقت الأوبرا، وارتفع مكانها الجراج المعروف الآن. الحلم قد تحقق لكن ترك سؤال لم أعرف اجابته” لماذا تركت الدولة فى الثمانينات والتسعينات تلك المعالم التراثية أن تهدم وهى التى كان يمكن استغلالها سياحيا . مثل أماكن ومنازل كبار الفنانين فى العالم أمثال الموسيقار موتسارت وبيتهوفن وباخ وغيرهم التى تحولت منازلهم الى مزارات للسياح الأجانب.
كازينو صفية حلمى تم بيعه وهدمه ومحل ” هارون الرشيد” تحول الى محل بيع أقمشة..!
لم أترك مكانا آخرا زاره حليم . فى حديقة الحيوان حيث غنى للست فاتن حمامة أغنية “كان يوم حبك أجمل صدفة” فى فيلم ” موعد غرام”- من إنتاج عام 1956. اخراج هنرى بركات وبطولة فاتن حمامة وعبد الحليم حافظ وزهرة العلا ورشدى اباظة بتاع ” هاكلمك فى التلافون”-
وفوق كوبرى قصر النيل، حيث وقف حليم فى الشمس الحارقة ينتظر فاتن فى موعد غرامى لم يتم وانتهى بضربة شمس للبطل الموعود دائما بالغرام والحب.
حكايات أماكن عبد الحليم لم تنتهى حتى فى الأسكندرية على شاطئ المعمورة والمنتزة وفندق البوريفاج حيث قام بتصوير أفلام ” أبى فوق الشجرة”- انتاج عام 1969- وفيلم البنات والصيف – انتاج عام 1960- وفيلم ” موعد غرام”
بعض الأماكن لم تعد كما كانت برونقها فى أفلام حليم، وفندق البوريفاج الشهير كان من اشهر الفنادق فى الإسكندرية واتصور فيه كلاسيكيات السينما المصرية مثل الزوجة 13 ومراتى مدير عام حبى الوحيد وحافيه على جسر الدهب ويقع فى منطقة لوران على البحر مباشرة وهو الان ارض خالية عليها لافتة لإحدى شركات المقاولات الكبرى.
راح الزمن وراح حليم وراحت الأماكن وبقيت الذكريات..
بقلم عادل السنهوري