موقع مصرنا الإخباري:
أحاطت شريعتنا الغراء عقد النكاح بسياج من نور، وعُنيت بأدق تفاصيله التى تضمن استقرار الحياة التى تنطلق على إثره، فقد أراده شرعنا رباطًا مقدسًا مؤبدًا، لا ينتهى إلا بموت طرف من طرفيه ما لم يتعذر استمراره لعارض يجعل إنهاءه أفضل بكثير من استمراره، حيث يكون الإنهاء بالطلاق أو الخلع أو الفسخ أو التطليق من قبل القضاء.
والمتأمل فى التدابير الشرعية للزواج يرى أنها تنطوى على جملة من الشروط التوافقية غير المذكورة نصًا فى وثيقته، فمن المعلوم أن شرعنا قدم على العقد ما يعرف بالخِطبة، وهى وإن لم تكن عقدًا مستقلًا فى ذاتها، ولا يترتب عليها أى إلزام لطرف من طرفيها، بل هى مقدمة وتمهيد لعقد الزواج، يدرس كل طرف شريكه المحتمل ليتأكد بنفسه من جملة شروط وضوابط فى نفسه، يبحث عنها فى شريكه فى رحلة حياته، وكل طرف من الطرفين حر فى وضع الضوابط التى يرغب فى امتلاك الطرف الآخر لها ليقبله زوجًا. وفى الخِطبة يفصح كل طرف للآخر عن رؤيته لحياتهما المقبلة، وما يأمل أن يكون عليه الطرف الآخر، كموقف الرجل من عمل زوجة المستقبل، وصحبته سفرًا وإقامة، والإقامة فى بيت عائلته أو عائلتها، وزيارة الأهل.
وبقدر الصراحة والوضوح فى مناقشة هذه الرغبات وإفصاح كل طرف عن احتياجاته تكون فرص نجاح الزواج واستقراره، ولو أحسن الناس استغلال ما شرعت له الخِطبة من الوقوف على حال الآخر، لقلت إلى حد كبير حالات الطلاق والإنهاء المبكر لعقد النكاح بسبب تعارض الرغبات والميول. والاستغلال الأمثل لفترة الخِطبة يغنينا عن جدل يثيره البعض فى الآونة الأخيرة حول مدى مشروعيّة النص على شروط يشترطها كل طرف على الآخر فى وثيقة الزواج، حيث يروج البعض لصيغ مقترحة لوثيقة الزواج محملة بقوائم شروط، بعضها من الزوجة وبعضها من الزوج، ويجعلون من الوفاء بها شرطًا لاستمرار الحياة الزوجيّة.
وفى الحقيقة لم يُرد شرعنا لعقد الزواج أن يكون عقدًا ماديًّا كعقود المعاملات الماليّة المحملة بقائمة شروط يضعها كل طرف من أطرافه، فمقصود العقد إثبات مشروعيّة العلاقة بين أجنبيين، قبله كان لا يجوز لأحدهما أن يتعمد النظر إلى الآخر ما لم يكن لغرض مشروع كإرادة الخِطبة، ويحرم مجرد اللمس لغير عذر شرعى كالتطبيب، ويعظم إن كانا تقاربا جنسيًا حتى إنه يوجب عقوبة حدية، وبالعقد تصبح هذه العلاقات مشروعة يثاب كل طرف عليها كلما فعلها، فعَنْ أَبِى ذَرٍّ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ قَالُوا لِلنَّبِىِّ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: « أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْىٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِى أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِى حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِى الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْر». والذى حول النظر واللمس وما بعدهما من باب المعصيّة بدرجاتها إلى باب الطاعة، إنما هو عقد الزواج الذى يبدد حياة الوحدة والقلق لدى الشاب والفتاة إلى دفء الأسرة والسكينة والمودة: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»، وهذا الرباط المقدس لخطورته اعتبره كتاب ربنا ميثاقا غليظا: «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا»، وهو لذاته يضمن تحقيق كثير من الأمور التى يشترطها بعضهم فى العقود المقترحة كالإنفاق وحسن العشرة. لذا فلا داعى لإفساد صورته الراقية بهذه الشروط التى توحى بعدم الثقة بين طرفيه، ومع ذلك ففكرة اقتران عقد الزواج ببعض الشروط ليست مرفوضة، بل تناولها الفقهاء السابقون وقسّموا هذه العقود إلى ثلاثة أقسام وبيّنوا حكم كل قسم منها: فالنوع الأول من هذه الشروط: هو ما عبروا عنه بالشروط التى يقتضيها عقد الزواج أى أنها من آثاره المترتبة عليه التى لا تحتاج إلى اشتراط أصلًا، كثبوت نسب الأبناء وإنفاق الزوج على زوجته وأولاده، وهذه الشروط يجب الوفاء بها شرطت أم لم تُشرط.
والنوع الثانى من الشروط: شروط تنافى مقتضى عقد الزواج كأن تشترط المرأة على الرجل تفضيلها فى النفقة أو المبيت على زوجته الأخرى، وهذا النوع من الشروط باطل لا يجوز الوفاء به لما فيه من ظلم نهانا عنه شرعنا، فشرط التعدد القدرة على تحقيق العدل بين الزوجات.
والنوع الثالث: شروط تحقق مصلحة لطرف من طرفى العقد كاشتراط الزوجة الإقامة فى بيت أبيها أو بيت يخصها، وهذا النوع من الشروط محل خلاف بين الفقهاء، حيث أجازه الحنابلة وأوجبوا الوفاء به، بينما منعه الجمهور ما دام العقد لا يقتضيه بذاته. وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على إبطال الشروط التى تنافى مقتضى العقد، واختلفوا فى الشروط التى تحقق مصلحة لطرف، فإنهم اختلفوا أيضًا فى حكم العقد الذى اقترن بشرط باطل، حيث يرى الحنفية والحنابلة: بطلان الشرط وتصحيح العقد، ويرى المالكية: إبطال الشرط والعقد قبل الدخول، وإبطال الشرط وتصحيح العقد بعد الدخول، ويرى المالكية، والشافعية فى قول: إبطال الشرط والعقد معًا قبل الدخول وبعده.
وبعد هذا البيان الموجز لموقف الفقهاء من الشروط المقترنة بعقد الزواج، فإن الفتوى على إبطال الشروط التى لا تلائم عقد الزواج مع تصحيح العقد قبل الدخول وبعده.
وإذا كانت فكرة اقتران عقد النكاح بالشروط الملائمة لا مانع منها، وحتى الشروط التى تحقق مصلحة لطرف ما دامت قبلها الآخر، فإن ما يروج له البعض على مواقع التواصل من تسميات لبعض صور عقود الزواج بما يطلقون عليه «زواج التجربة»، إن صح فهو غير مقبول فى شرعنا، بل امتهان لهذا العقد الراقى والانحدار به إلى الصفقات الماديّة البحتة، فلا المرأة ولا الرجل سيارة أو جهاز إلكترونى يجربه من اشتراه فإن راق له احتفظ به وإلا رده! ولأن هذا إن أريد به تحديد مدة فهو زواج مؤقت باطل، وإن كان تعليق لاستمراره على شرط فهو كخيار الشرط، وعقد النكاح لا يقبله. وإذا كان إسلامنا قد أبطل النكاح المؤقت لمجرد اشتراطه حتى ولو كان لسنوات طويلة احترامًا لهذا الرباط الذى أريد له أن يكون مؤبدًا، فإبطال هذه الأسماء المبتذلة أولى. فلينعقد عقد النكاح مؤبدًا فإن تعرضت سفينته لعطب يصعب إصلاحه، فسبل الخلاص بالطلاق، وبالخلع، وبالتطليق أو الفسخ موجودة ومشروعة.