نشرت صحيفة “الغارديان” مقالا أعدته نسرين مالك، قالت فيه إن عامين اختفيا في السودان بلمحة بصر في الأسبوع الماضي “عامان من العمل لإخراج السودان من عزلة بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، عامان من محاولة تشكيل حكومة مدنية، عامان من الحداد على من ماتوا في ثورة السودان للإطاحة بعمر البشير وعامان من الأمل في أن تكون هذه الدماء لم تذهب سدى”.
وفي النهاية، والمهم كما تقول هو أن الجيش سئم عامين من الشراكة مع المدنيين في اتفاقية انتقالية لتقاسم السلطة. وقام، الأسبوع الماضي، بالاستيلاء على السلطة في انقلاب قضى على كل ما كسبه الشعب السوداني منذ الإطاحة بالحكومة العسكرية للبشير في عام 2019.
وترى الكاتبة أن تلك الثورة أحيت الأمل في حكم ديمقراطي، ليس فقط في السودان، ولكن في جميع أنحاء العالم العربي.
ولو عدنا إلى الوراء، يبدو أن عمرها القصير كان حتميا. فقد تكون انتفاضة السودان أطاحت بالبشير، لكن خلفه كانت توجد دولة عسكرية وأمنية لها جذور عميقة ومصالح اقتصادية معقدة. وعندما أصبح واضحا أن الشعب السوداني لن يتسامح مع زعيم عسكري آخر كبديل للبشير، توصل الجيش إلى اتفاق مع الأحزاب المدنية على ترتيب انتقالي لتقاسم السلطة يقود في النهاية للانتخابات.
وتضيف أنه يمكن للمرء أن يجادل بأن من السذاجة توقع قيام الجيش وحلفائه المرتبطين بتسليم السلطة والعودة إلى ثكناتهم. لكن يبدو أيضا أنه من غير المفهوم أنهم سيتخذون مثل هذه الخطوة القوية التي تراجعوا فيها عن التزاماتهم، كما فعلوا.
ولا يزال الوضع الجديد في البلاد في مهده، حيث يواجه الجيش الآن إدانة دولية وأزمات دبلوماسية.
فقد قطع الانقلاب محاولات إعادة دمج السودان في المجتمع الدولي وتم تعليق الإعفاء من الديون، مما ترك الاقتصاد في حالة انهيار. فيما ألغت أمريكا 700 مليون دولار من المساعدات بعد 24 ساعة فقط من الانقلاب.
وتعلق مالك أن كل هذه الحسابات لا تهم الجيوش المصممة على استغلال بلد لا يحتاج إلى الازدهار من أجل بقاء حكامه. فالتحالف بين جيش كبير من المرتزقة، قوات الدعم السريع (وهي النسخة الرسمية والموحدة من الجنجويد التي أرهبت منطقة دارفور)، الجيش، وبقايا المصالح التجارية من نظام البشير، أحكم قبضته على البلاد. وسيديرون السودان كجسد تتغذى عليه شراكة الطفيليات. وبدون مواجهة ضوابط الشفافية أو المساءلة، سيتمكن “النادي الجديد” الحاكم في السودان من تقسيم البنية التحتية للبلاد والاستيلاء على المواد الخام مثل الذهب، وبيعها للحلفاء الإقليميين. وسيكون لديهم القوة المسلحة لقمع التمردات في المناطق المهمشة في البلاد. ومن خلال القيام بصفقات قذرة ومربحة مع الحلفاء الخليجيين، سيكونون قادرين على تنفير من يريدون في الغرب. باعت قوات الدعم السريع بالفعل جنودا سودانيين – بعضهم أطفال – للإمارات والسعودية لتقديم الدعم لحروبهم في اليمن. إن بيع موارد السودان وأفراده لمن يدفع أكثر هو عمل مربح للغاية بحيث لا يمكن التخلي عنه مقابل بضع مئات من الملايين من الدولارات من المساعدات الغربية.
وبهذا المعنى، تقول مالك، فثورة السودان لم تكن، مثل كل الثورات، ضد نظام واحد بل ضد العديد من الأنظمة. فهي ثورة استهدفت الموروثات والترتيبات الفاسدة التي تجلت في ديكتاتور واحد – البشير – الذي أوكلت إليه السلطة من خلال شبكته الكبيرة من الداعمين.
ففي كل مرحلة من مراحل الانتفاضة منذ عام 2018، اكتشف الشعب السوداني طاغية آخر وراء المستبد. وتقف خلف البشير كتيبة من الجنرالات الذين وصلوا إلى السلطة عندما لم يكن العديد من المتظاهرين في الشوارع قد ولدوا، وخلف هؤلاء الجنرالات كانت جيوش المرتزقة وخلف المرتزقة كان يقف حلفاء الثورة المضادة، حلفاء السودان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: السعودية والإمارات ومصر، الذين أرادوا ضمان ألا يولد حكم مدني ديمقراطي في السودان ويصبح واقعا حتى لا تتسرب العدوى إلى بلدانهم. وترى أن إدانة أمريكا وتوجيه اللوم من قبل الأمم المتحدة لن يجدي مع سياسة الأمر الواقع الحديدية التي تدعم الانقلاب في السودان.
وتعتقد أن نجاح الثورة السودانية أصلا، كان في الحقيقة معجزة. وكونها استمرت عامين كاملين قبل أن يتحرك الجيش مرة أخرى فهذا دليل على عدد المتظاهرين الذين لم يكلوا واستمروا في التدفق إلى الشوارع في عام 2019.
فهم لم يكتفوا بالإطاحة بالبشير، بل فرضوا شكل الحكومة الانتقالية التي أعقبت هذا.
ونظر ملايين السودانيين في فوهة ما بدا وكأنه فشل مؤكد، وثابروا. لقد فعلوا ذلك مرة أخرى الأسبوع الماضي، حيث نزلوا إلى الشوارع بالملايين لرفض الانقلاب والمطالبة بعودة الحكومة المدنية، والإفراج عن العديد من أعضائها، بمن فيهم رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، المعتقلين أو الخاضعين للإقامة الجبرية.
وانتظر السودانيون 30 عاما للثورة، حتى قامت ثورة لثلاث سنوات مرة واحدة. في الأسبوع الماضي، تعرض المتظاهرون لإطلاق النار والضرب مرة أخرى، وسقط القتلى والجرحى في شوارع مدن السودان.
ومرة أخرى، تحدث مواجهة مقلقة بين الشعب السوداني وجيش وتحالف من قوات الأمن لديه خياران فقط: الانصياع لإرادة السودانيين، أو ذبحهم. يعتقد الجنود والعسكريون أنه قد يكون هناك خيار ثالث – أن ينتظروا على أمل أن يتعب الناس من الاحتجاجات وتستقر الحكومة العسكرية الجديدة، وهذا يبدو غير مرجح.
لكن حتى لو انتصر الانقلاب، فسيكون فوزه صعبا وستضعفه الحاجة للرقابة المستمرة وقمع المعارضة. قد تبدو المقاومة المدنية للانقلاب ضعيفة عند مقارنتها بقوة الجنرالات وداعميهم، لكن الجيش يواجه شعبا مصمما على ألا يحكم بالقوة مرة أخرى. يبدو تصميمهم بلا حدود مثل شهية الجيش للسلطة.
المصدر: القدس العربي