عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، في الأربعينات من القرن الماضى، كانت الحاجة ملحة لإعداد البيئة الدولية للقوى الدولية الجديدة، وهى الولايات المتحدة، باعتبارها الطرف الأكثر تأثيرا، في انتصار دول الحلفاء، على المحور، لترث قيادة المعسكر الغربى، من القوى التقليدية، على غرار بريطانيا وفرنسا، التي سيطرت على العالم لعقود طويلة من الزمن، ففرضت مبادئها الرأسمالية، ووضعت بذور مبادئ حرية التجارة، بينما كانت في حاجة ملحة لضمان ولاء حلفائها خلال مرحلة الصراع مع الاتحاد السوفيتى، إبان الحرب الباردة، فكان الثمن هو تقديم الدعم الاقتصادى والأمنى لهم، لإعادة إعمار دولهم، بعد الخراب الذى حل عليهم، في أعقاب الحرب، بالإضافة إلى الدور الكبير الذى لعبه حلف شمال الأطلسى “ناتو” ليقدم غطاءً أمنيا لهم، بعد الانهيار العسكرى الذى حل ببعضهم، خلال حقبة المعركة.
وبعد الحرب الباردة، ربما لم تتغير سياسة “الدعم” الأمريكي للحلفاء، بل على العكس، اتسع نطاقها بصورة كبيرة، حيث فرغت الساحة الدولية من القوى القادرة على الهيمنة عليها، إلا الولايات المتحدة، وبالتالي فكان عليها بسط المزيد من السيطرة، عبر استقطاب المزيد من الحلفاء، وبالتالي كان الدعم أكبر، سواء من حيث نطاقه، والذى امتد إلى مساحة جغرافية فاقت دول المعسكر الغربى، ليمتد إلى مناطق أخرى من العالم، على غرار أوروبا الشرقية، والتي امتدت إليها المؤسسات الغربية، كالناتو والاتحاد الأوروبى، ناهيك عن الدعم الاقتصادى، أو من حيث الجانب المادى، فأصبح الدعم المقدم للحلفاء القدامى، في حاجة إلى زيادة، عبر المزيد من المزايا الاقتصادية، من بوابة حرية التجارة، وزيادة الدعم الأمني والعسكرى، بالإضافة إلى تعظيم الدور السياسى للدول الحليفة، حتى يمكنهم القيام بدور “المحلل” للسياسات الأمريكية، وهو ما بدا بوضوح، على سبيل المثال في الاتفاق النووي الإيراني، الذى أبت واشنطن إبرامه بصورة ثنائية، حيث وضعت معها حلفائها على مائدة التفاوض، ليكونوا شركائها، مما يضفى قدرا كبيرا من الشرعية على الخطوة التي أثارت قدرا من الجدل في تلك الفترة.
إلا أن الأمور ربما تغيرت، في السنوات الأخيرة، فصار المنح المقدمة من القوى الكبرى للحلفاء محدودة بحكم المستجدات الدولية، خاصة على الجانب الاقتصادى، والذى يمثل العامل المشترك، في العديد من مجالات الدعم، والتي لا تتوقف على المزايا الاقتصادية والتجارية، وإنما تمتد كذلك للجانب الأمني والعسكرى، حيث تبقى واشنطن أكثر الدول التي تتكبد خزانتها، تكاليف العمليات على أراضى حلفائها، ناهيك عن الأزمات التي ضربت العالم، على غرار الأزمة الاقتصادية العالمية، والتي كانت أمريكا الخاسر الأكبر من ورائها، وهو الأمر الذى ربما دفع إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، إلى ما يمكننا تسميته بـ”إعادة هيكلة” الدعم الدولى الذى تقدمه واشنطن لحلفائها، وهو ما بدا في فرض تعريفات جمركية، على الواردات القادمة من الخارج، وكذلك التلويح بالانسحاب من الناتو حال عدم الالتزام الشركاء بسداد التزاماتهم المالية للحلف، وهو ما يمثل بداية النهاية لحقبة “الدعم مقابل الولاء”.
ولعل “الاستفاقة” الأمريكية من “غمة” الدعم الدولى، لشركائها العالميين، تزامنت مع نهج جديد، تبنته القوى الجديدة، وعلى رأسها الصين، وروسيا، والتي تبنت مبدأ الشراكة، مع الدول الأخرى، عبر مشروعات عملاقة، تساهم فيها، وتحقق في النهاية مكاسب مشتركة للجميع، في إطار مبدأ “الشراكة”، مما خلق ارتباطا بين القوى الجديدة، الطامحة لدور قيادى عالمى، والدول في مختلف مناطق العالم، ربما يصعب كسره، خاصة مع سياسة “التخلي” الأمريكي عن الحلفاء.
وللحقيقة، فإن مبدأ الشراكة، لم يقتصر على القوى الدولية الكبرى فقط، وإنما امتد إلى العديد من القوى الإقليمية الأخرى، على غرار مصر، والتي تبنت هذا المبدأ مع العديد من الدول الأخرى في محيطها الجغرافى والإقليمى، منها على سبيل المثال تدشين منتدى غاز المتوسط، والذى ساهم في ربط المصالح الاقتصادية بين مصر والعديد من الدول الأخرى، وهو ما ساهم في استعادة الدور الإقليمى البارز التي تلعبه القاهرة في مختلف الملفات الدولية، لتستعيد مكانتها، التي توارت لسنوات عدة، في أعقاب ما يسمى بـ”الربيع العربى”.
وهنا يمكننا القول بأنه لم يعد هناك مكانا لما يمكننا تسميته بـ”سياسة الدعم” في المجتمع الدولى، ليحل محله مبدأ الشراكة الدولية، لترتبط الدول بمصالحها الخاصة، أكثر من ارتباطها بالمنح المقدمة لها من الخارج، خاصة وأن السنوات الأخيرة ربما أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن الصفقات المجانية ربما تصبح “قصيرة المدى”، ويمكن انتهاكها إذا اقتضت مصلحة الدول الكبرى ذلك، بينما الشراكة تبقى أطول من حيث المدى، وأكثر تحقيقا للمصالح الاقتصادية والسياسية.
بقلم بيشوي رمزي