سقط إريكسن فجأة فخطف القلوب ولكنه لم يخطف العقول، توقفت عضلة قلبه وظن الجميع أنه مات، إلا أن التعامل مع الواقعة كان درساً للعالم، ولخص مشهد سقوط نجم الدنمارك، على مدار نصف ساعة، كل معانى تسخير العلم لإنقاذ حياة البشر، وشاهد العالم كيف تعامل الجهاز الطبى بسرعة واحترافية لإنقاذ حياته وإنعاش قلبه عن طريق CPR والحفاظ على وظائف القلب والدماغ، وهو ما لخصه طبيب المنتخب بعبارة “أعدناه للحياة”.
الحكمة فى التعامل مع الموقف لعبت دور البطولة فى عملية إنقاذ إريكسن، وتمثلت تلك الحكمة فى التعامل السليم، سواء من قائد المنتخب سيمون كيير، الذى هرع مسرعاً نحو زميله بمجرد سقوطه، وكان حينها واقفاً بآخر نقطة بالملعب بحكم مركزه كقلب دفاع، وعمل على تعديل وضعية رأسه لمنع ابتلاع لسانه لحظة الإغماء، محاولاً إنعاش قلبه قبل وصول الطاقم الطبي، كل ذلك فى لحظات، إلا أن المشهد الأكثر إنسانية حينما طالب “كيير” زملاءه بالتكاتف وعمل ساتر حول إيركسن لمنع تصويره من جانب وسائل الإعلام فى هذه الوضعية، فضلاً عن منح الجهاز الطبى فرصة للتعامل مع الموقف.
“كيير القائد” تعامل بحكم وظيفته بالفريق، والتى تنحصر فى ثقافتنا على ارتداء شارة وتوجيه اللاعبين، وربما نجد خلافات بين البعض لارتداء تلك الشارة، ليكشف “كيير” المعنى الحقيقى للقائد ويقدم رسالة للعالم حينما قدم الدور الإنسانى، سواء فى إنقاذ زميله من الموت، أو بعمل الساتر لتفادى تصويره حفاظاً على الخصوصية، ولم يتوقف دوره عند هذا الحد وإنما أسرع لخارج الملعب ومواساة زوجة إريكسن المنهارة قلقاً على زوجها لمحاولة طمأنتها عليه.
ولكن ماذا لو ألغى “كيير” عقله لثوانٍ معدودة واستسلم للعاطفة، ماذا لو سيطرت عليه صدمة الموقف وظل فى مكانه مكتفياً بنظرات العطف والشفقة على زميله الذى يلفظ أنفاسه الأخيرة، ففى حال تغليبه العاطفة على العقل ربما وقعت كارثة فقد خلالها زميله، ما جعل البعض ينادى بضرورة تنظيم دورات لتثقيف الاعبين بأحدث وسائل الإسعافات الأولية وتدريبهم على أحدث تقنيات الإنعاش القلبى الرئوى وتوفر جهاز الصدمات الكهربائية فى الملاعب وداخل غرف الملابس وحتى فى المدرجات، لأن وقوع تلك الإصابات وارد بالنسبة للرياضيين ولكن الأهم هو كيف نتعامل معها حال وقوعها.
الجماهير فى المدرجات أصيبت بحالة من الذهول مصحوبة بصمت رهيب من هول الموقف، وما بين دعم اللاعب معنوياً بكلمات تحثه على النهوض وآخرون أصيبوا بفزع شديد خوفاً من تكرار مشاهد مأساوية بفقدان لاعبين، واستعادة مشهد سقوط محمد عبد الوهاب نجم الأهلى بطريقة مشابهة فى ملعب التتش، وكيف أصاب العالم بحالة من الفزع بعد إعلان خبر وفاته، وتكرر المشهد بسقوط مارك فيفيان فويه لاعب الكاميرون فى مباراة منتخب بلاده أمام كولومبيا بنصف نهائى كأس القارات 2003، ولحظات الرعب والفزع التى أصابت اللاعبين بعد محاولات إسعافه لمدة 45 دقيقة داخل الملعب انتهت بخروجه محمولا على نقالة وإعلان خبر وفاته.
أما الجهاز الطبى لمنتخب الدنمارك فتعامل باحترافية شديدة فى عملية إنقاذ حياة إيركسن عن طريق إسعافه بجهاز الـ CPRوإنعاش قلبه بعد توقفه للحظات، والحفاظ على عملية تدفق الدم المشبع بالأكسجين إلى الدماغ وباقى أعضاء الجسد، حتى نجحوا فى مهمة إنقاذ اللاعب، وهو ما عبر عنه مارتن بويسن طبيب منتخب الدنمارك بعبارة “أعدناه للحياة”، فى رسالة للعالم بالتعامل المثالى مع الأزمة، لأنهم لو تباطأوا فى عملية إسعافه بالملعب أو قرروا نقله للمستشفى لربما حدثت كارثة بموت كريستيان إريكسن مثلا.
المشاهد الإنسانية لم تتوقف عند هذا الحد، وإنما ظهرت تلك المعانى لحظة نزول لاعبى الدنمارك لاستئناف المباراة بعد الاطمئنان على زميلهم، وهو ما قابله لاعبو فنلندا باحترافية شديدة، فوقفوا وصفقوا لزملائهم بالمنتخب الدنماركى لدعمهم معنوياً وتشجيعهم على استكمال المباراة، حتى عندما أحرز جويل بوهيانبالو هدفاً تاريخياً هو الأول لمنتخب فنلندا فى البطولة الأوروبية تراجع عن الاحتفال وقدم رسالة دعم لـ إيركسن نال على إثرها احترام العالم.
إريكسن في لحظات فقدان الوعى قدم عدة رسائل للعالم كشفت حقيقة مفادها أن الجانب الإنسانى أهم من كرة القدم، وأن إنقاذ روح إنسان هو البطولة الحقيقية التى يجب أن يتفاخر بها أى شخص، لأن الله تعالى كرمه الإنسان وفضله على سائر مخلوقاته مهما اختلفت الأعراق أو الألوان أو الديانات.
بقلم صابر حسين