موقع مصرنا الإخباري:
يظن البعض أن ظهور الإلحاد جاء نتيجة للغزو الفكرى، أو تزايد النشاط الفكرى لتلك الفئة التى لا تؤمن بالأديان، والحق أنه مهما تزايد نشاط هذه الفئة فإن استجابة الشباب لها لم تكن تتجاوز حد الفضول أو السخرية، ولم تتجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة الاعتقاد، أو إن شئت قلت الاقتناع بفكرة الإلحاد، ذلك أنها فكرة تمجها العقول السليمة والفطرة النقية بمجرد الاستماع إليها.
الدراسات العلمية الاجتماعية تؤكد أن تنامى ظاهرة التيار السياسى المتأسلم الذى يحمل شعارات براقة ومفاهيم مغلوطة شديدة الشذوذ والتطرف، وتصاعده بقوة تجاه السلطة بعد ثورات ما يعرف بالربيع العربى، جعل كثيرًا من الشباب المتحمس يتجه بقوة واندفاع وحماسة للانضمام لهذه الجماعات على تنوعها واختلافها، لقد كانت الشعارات براقة جدًا، لكن مع خروج هذه الجماعات من حيز الشعارات البراقة إلى حيز التفاعل والتطبيق على أرض الواقع، كان السقوط الأخلاقى قبل السياسى مدويًا جدًا، ما تسبب فى صدمات نفسية عند كثير من الشباب الذين تهاوت أحلامهم أمام أعينهم، والذين تنوعت ردود أفعالهم تجاه هذا الانهيار الذى كان حتميًا طبعًا، فمنهم من اتجه إلى تصحيح المسار والأفكار، بتعرفه على علماء الأزهر الشريف والوقوف على معالم المنهج الأزهرى الذى يدعو إلى عمارة الأرض والتعايش السلمى الحقيقى، واتجه الشباب إلى البحث عن الفوارق بينه وبين مناهج الجماعات المشوشة، ومنهم من أصغى بأذنيه إلى دعوات الإلحاد نتيجة لحالة عدم الاتزان والصدمة التى كان فيها.
أعرف بعضًا من هؤلاء الشباب يقول أنا ملحد أو يظهر تشككه فى صحة الإسلام أو الإيمان بالله، وهو يصلى مثلًا، وعندما تتناقش مع كثير منهم تعلم أن هؤلاء الشباب فى حالة اهتزاز وذبذبة نفسية، لا فى حالة تحول عقدى بالمفهوم الحقيقى للتحول الفكرى، حتى إن كثيرًا منهم لا يدرى ما هو الإلحاد وحقيقته، بعض الشباب يردد أثناء النقاش كلمات مثل الحمد لله، وسبحان الله وإذا ذكرت اسم النبى قال لك، صلى الله عليه وسلم.. إلخ، فالسبب فى هذه الظاهرة تشابك عدة عوامل فى مقدمتها التغيرات السياسية والاجتماعية، ومنها حركة السيولة الفكرية والثقافية وحرية طرح الأفكار، مهما كانت شاذة بواسطة وسائل التواصل الاجتماعى، ومنها الحالة النفسية التى تشبه الصدمة تجاه ما هو دينى عند هؤلاء الشباب، وهذا الأمر يؤكد على أهمية ارتباط الدين بالأخلاق وحسن المعاملة والصدق مع الله ومع الناس، وأول ظاهرة نراها تتفشى فى هذه الجماعات التى تدعى الإسلام، سهولة تعاطى الأكاذيب وترويجها بحيث نستطيع أن نقول إنها سمة أساسية من سمات هذه الجماعات، فكيف تطلب من شاب جامعى مثقف اندفع بعاطفته وحبه إلى الانتماء لجماعات تبشر بدولة إسلامية مثالية فى صورة مدينة فاضلة يطبق فيها العدل المطلق والمساواة الحقيقية ورغد العيش، ثم يفاجأ بالتكفير واستباحة الدماء وتقطيع الأعضاء وإشاعة الرعب والفوضى، والاستهتار بكل ما هو قانونى أو دستورى وسيادة مبدأ التحاكم إلى القوة والقدرة على الحشد، فحُصرت المؤسسات والمحاكم، وعوقت القوانين التى شرعوها، وعطلت الدساتير التى شاركوا فى وضعها، كل نظام – وإن وضعوه بأنفسهم – يتعارض مع مصلحتهم ضربوا به عرض الحائط باسم تطبيق الشريعة، حتى وهم فى الحكم تعاملوا بمنهج الخوارج لا بمنهج رجال الدولة الذين يسعون دائمًا إلى تحقيق الاستقرار والأمن لمجتمعاتهم ولو على سبيل الترويج والاستمرار فى الحكم، لقد حدث صراع حقيقى بين جوهر الإسلام وحقيقته وروحه وبين حالة التفسخ الأخلاقى وتعظيم المظهر على الجوهر الذى عليه هذه الجماعات، ومبدأ الولاء والبراء الذى يعنى ببساطة شديدة أن كل من ليس معى فهو كافر مستباح الدم، وعلى كل الأحوال فإننا نجافى الحقيقة إذا قلنا إن الإلحاد تحول إلى ظاهرة فى المجتمع لكنه موجود على كل حال.
ولا شك أن حالة استرداد الوعى الذاتى والفطرى التى قامت بها المجتمعات العربية وخاصة فى مصر أدت إلى تشجيع المنهج الوسطى الصحيح، فالمنهج الوسطى الذى يدعو إلى السلم والتعايش واحترام القوانين والدساتير والتزام الأخلاق الإسلامية على أرض الواقع هو الضمانة الوحيدة لعدم جنوح الشباب إلى العنف والتطرف الدينى، وأيضًا لعدم جنوحهم إلى دعوات التشكيك والإلحاد، على علماء المؤسسات الدينية فى العالم أن يبذلوا مزيدًا من الجهود لنشر مبادئ الإسلام السامية، وعلى المؤسسات الدينية أن تكون عندها قدرة على الإبداع والتطوير والمواكبة واستعمال الوسائل العصرية التى يتفاعل معها الشباب بسهولة.
فلم يعد الأسلوب التقليدى الوعظى البكائى الخطابى يمثل وسيلة فعالة لإقناع هؤلاء الشباب بأية فكرة أو مبدأ، ومن ثم فنحن بحاجة ماسة إلى مراجعة كيفية تكوين وإعداد وتثقيف الدعاة والعلماء عندنا فى مراحل تكوينهم الأولى، فالاكتفاء بتحصيل الثقافة الدينية وإغفال فهم الثقافات والمناهج الفكرية المعاصرة أوجد جفوة حقيقية بين الشباب والدعاة الوسطيين، لا بد إذًا من الإلمام الجيد بكل ما هو عصرى ولا توجد صورة أوضح من هذا لتجديد الخطاب الدينى بتجديد الأساليب والمناهج والطرق التى تكون العالم المتخصص فى العلوم الإسلامية بحيث يكون ملمًا بعلوم النفس والسياسة والاجتماع والاقتصاد، محصلًا قدرًا لا بأس به من اللغات الأجنبية مجيدًا للتعاطى مع وسائل التواصل الاجتماعى مدركًا لما يدور فى نفوس وعقول الشباب حتى وإن لم يتكلموا به إلى جانب العلوم الشرعية الإسلامية بطبيعة الحال.