يبرز تباين في خطاب مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل في الولايات المتحدة بخصوص العدوان على غزة، وبالتحديد بين منظمة “جي ستريت”، و”لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية” المعروفة اختصارا باسم “أيباك”. ورغم اتفاق المجموعتين على إدانة هجوم طوفان الأقصى، وضرورة استمرار المساعدات العسكرية الأميركية لتل أبيب، فإن جي ستريت تفردت بمطالب من قبيل حث إدارة الرئيس جو بايدن على إلزام إسرائيل بالقانون الدولي للحرب، وإنهاء الحصار الشامل المفروض على غزة. وهي مطالب تضاف إلى دعمها سابقا للاتفاق النووي مع إيران عام 2015، وتنديدها بالانسحاب منه في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو الموقف الذي جعل السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل ديفيد فريدمان يصف جي ستريت بأنها حركة تجمع مجموعة من المتعجرفين الداعين لتدمير إسرائيل، حسب زعمه. وقد استضافت جي ستريت وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في الرابع من ديسمبر/كانون الثاني 2022 في لقاء بفندق أومني شورهام في واشنطن للحديث عن العلاقات الأميركية الإسرائيلية. وحينها، قال بلينكن “إن المشاركة الدائمة لجي ستريت بالإضافة إلى المجموعات الأخرى التي نتشاور معها بانتظام، تسهم في تشكيل تفكيرنا”. فمتى ولماذا تأسست جي ستريت، وما أوجه الاختلاف بينها وبين أيباك، وما موقفها من القضية الفلسطينية، وما حجم تأثيرها في الولايات المتحدة؟ قصة التغلغل في النخب الأميركية تمثل الجالية اليهودية نحو 2.5% فقط من سكان الولايات المتحدة، إذ يبلغ تعدداها 6 ملايين من بين 332 مليون نسمة هم مجموع الشعب الأميركي، إلا أنها تتمتع بانتشار واسع في النخب السياسية والاقتصادية والثقافية. ورغم الاعتراف الأميركي في عهد الرئيس هاري ترومان بإسرائيل بعد دقائق من الإعلان عن تأسيسها في عام 1948 على أرض عربية مغتصبة، فإن علاقات واشنطن وتل أبيب ظلت تتقلب نحو 30 سنة منذ حقبة ترومان حتى عهد ليندون جونسون. واعتمدت تل أبيب خلال تلك الفترة على الدعم العسكري من فرنسا، والدعم السياسي من بريطانيا، والدعم المالي من ألمانيا. وخلال حقبة خمسينيات وستينيات القرن الـ20، تصاعدت حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، والتي طالبت بحقوق المواطنين السود، كما برزت الحركة المناهضة لحرب فيتنام، وهو ما تلاقى مع انتصار إسرائيل في حرب عام 1967 ليدفع اليهود الأميركيين للبحث عن أداء دور سياسي مؤسسي يدعم إسرائيل، ويستفيد من تمركزهم في المراكز السكانية الكبرى، ومن ارتفاع نسب التصويت بينهم في الانتخابات بكافة أنواعها: رئاسية ونيابية ومحلية، ومثلت تلك الحالة دفعة قوية لتنامي نشاط “أيباك” التي تأسست رسميا في عام 1954. رأت “أيباك” أن الرؤساء الأميركيين يأتون ويذهبون، ويشغلون مناصبهم لفترة لا تتجاوز 8 سنوات في أحسن تقدير، بينما أعضاء الكونغرس يظلون عادة في مناصبهم لمدة 20 عاما، وبالتالي فإن كسبهم لجانب إسرائيل من شأنه الحفاظ على نواة صلبة من الداعمين الذين يمكن الاعتماد عليهم بغض النظر عن الظروف السياسية المتغيرة. وفي ظل سهولة تواصل الناخبين بشكل دائم مع ممثليهم في الكونغرس أو مجلس النواب لجأت “أيباك” إلى تنظيم زيارات واتصالات لأعضائها مع النواب بشأن القضايا التي تؤثر على العلاقات الأميركية الإسرائيلية، ورتبت لهم ولعائلاتهم وموظفيهم زيارات دورية لإسرائيل. كما نظمت حملات جمع أموال لصالح الحملات الانتخابية للمرشحين المؤيدين لإسرائيل، في حين دعمت المنافسين للنواب المناهضين لإسرائيل، وعلت أسهمها مع نجاحها في إسقاط بول فيندلي النائب الجمهوري عن ولاية إلينوي في عام 1982 بعد أن وصفته بأنه رجل ياسر عرفات في الكونغرس، ثم إسقاط السيناتور الجمهوري تشاك بيرسي رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ المقرب من الدول العربية، في انتخابات عام 1984. وبذلك أصبح الاقتراب من “أيباك” والحفاظ على علاقة جيدة معها مطمحا لأغلب النواب الأميركيين. رسمت “أيباك” موقفها على الدعم المطلق لإسرائيل بناء على فلسفة ترى أن حكومة إسرائيل وحدها هي التي تستطيع تحديد مصالحها وسياساتها، وأنه ليس لليهود الأميركيين الحق في أن يقولوا لحكومة إسرائيل ما ينبغي لها أو لا ينبغي لها أن تفعله، فهم لا يعيشون في إسرائيل ولا يصوتون بها ولا يخدمون في جيشها. وأجمعت على أن واشنطن ينبغي لها أن تتلقى رسالة واحدة من اليهود الأميركيين في ما يخص إسرائيل، وفي حال وجود اختلاف في الرأي فينبغي إيصال الملاحظات إلى الحكومة الإسرائيلية سرا بعيدا عن الإعلام. ولتعزيز نفوذها عملت “أيباك” على تقوية علاقاتها مع المجتمع الإنجيلي المسيحي الداعم لإسرائيل وفق معتقداته الدينية، مما كفل لها جمهورا داعما يضم عشرات الملايين. لماذا تأسست جي ستريت؟ لم يعجب نهج “أيباك” العديد من اليهود الأميركيين اليساريين الذين ازداد إحباطهم مع انهيار عملية السلام بعد الانتفاضة الثانية، والانسحاب الأحادي من غزة عام 2005، ثم اندلاع حرب لبنان عام 2006، وصعود أسهم اليمين الإسرائيلي مجددا بقيادة بنيامين نتنياهو. أسس هؤلاء المحبطون في عام 2008 “جي ستريت” بحجة أنه توجد حاجة إلى صوت جديد للمجتمع اليهودي الأميركي، ووعدت المجموعة بأنها ستلعب دور البيت السياسي للأميركيين المؤيدين لإسرائيل والداعمين للسلام. وشددت على أن من حق اليهود الأميركيين التحدث علنا عندما تضر سياسات أو تصرفات الحكومة الإسرائيلية بالمصالح طويلة المدى للولايات المتحدة وإسرائيل. وقد شرح رئيس “جي ستريت” جيرمي بن عامي دوافع تأسيس المجموعة في كتاب أصدره عام 2011 بعنوان “صوت جديد لإسرائيل: الكفاح من أجل بقاء الأمة اليهودية”. قوبل تأسيس “جي ستريت” بحملة شعواء من “أيباك” التي رأت فيه تمزيقا لوحدة الصوت اليهودي الأميركي، وركزت الانتقادات على دور الملياردير جورج سوروس في تمويل جي ستريت بمبلغ 750 ألف دولار خلال السنوات الثلاث الأولى من عملها. كما أصدر أنصار “أيباك” تقارير دورية عن أنشطة جي ستريت التي تستضيف فيها شخصيات عربية مثل معن عريقات رئيس وفد منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن قبل إغلاق مكتبها، وعضو الكنيست أيمن عودة رئيس القائمة العربية المشتركة في الكنيست الإسرائيلي، فضلا عن رصد مواقفها التي تخالف فيها الحكومة الإسرائيلية، وذلك للتنديد بها والتشكيك في صهيونيتها. مبادئ ورؤية جي ستريت أول مبدأ معلن لجي ستريت في دليل تعريفي أصدرته في عام 2021، هو “الالتزام بدعم شعب ودولة إسرائيل”. لكنها ترى أن حل الدولتين ضروري لبقاء إسرائيل وطنا قوميا وديموقراطيا لليهود، وأن إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يصب في مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة والفلسطينيين والمنطقة ككل، حسب تعبيرها. ولهذا الاعتبار، فإنها تدعم الحلول الدبلوماسية كما تشترط اعتراف حركة حماس بإسرائيل واتفاقيات أوسلو، والتخلي عن المقاومة. ضمن تلك الرؤية، تؤيد جي ستريت المساعدات الأمنية الأميركية لإسرائيل، لكنها تدعو إلى تقييدها بضمان عدم استخدامها في ضم الضفة الغربية أو توسيع المستوطنات أو هدم منازل الفلسطينيين. وتؤكد أن من حق فلسطين الانضمام إلى المؤسسات والمنظمات الدولية كدولة عضو، وتجادل بأن من حق جميع اللاجئين الفلسطينيين العيش في دولة فلسطين، وتقديم تعويضات مالية لمن يختارون العيش خارجها. مجالات عمل جي ستريت وتأثيرها تتشكل جي ستريت من 3 مكونات: الأول يشمل “لجنة عمل سياسي” تجمع الأموال من الأعضاء لممارسة الضغط السياسي، الثاني هو “صندوق للتعليم” يعمل في مجال التعليم وتنظيم الأنشطة في الجامعات والمعابد اليهودية في الولايات المتحدة وكذلك في إسرائيل، والثالث، مؤسسة تعمل كذراع إداري للجنة العمل السياسي. وتركز جي ستريت على حشد الدعم للسياسات والمواقف المؤيدة لإسرائيل وللسلام، بما في ذلك جمع التبرعات لدعم المرشحين للانتخابات الرئاسية ومجلس النواب والكونغرس ممن يتقاطعون مع أجندتها. كما تعقد ندوات عامة وورش عمل، وتنشر تحليلات سياسية فضلا عن تقرير إخباري يومي حول الموضوعات المتعلقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وذلك لتثقيف المسؤولين المنتخبين وصانعي السياسات والمناصرين بموقفها من تلك القضايا. وقد جاء في دراسة نشرها المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية “إيفري” في عام 2012 أن “جي ستريت” لن تتمكن من التأثير على السياسة الخارجية الأميركية تجاه إسرائيل، ولن تتحول إلى رقم داخل المجتمع اليهودي الأميركي في ظل قوة ورسوخ “أيباك”. لكن بمرور الوقت نجحت “جي ستريت” في أن تصبح ثقلا موازنا لأيباك، فجمعت ضمن أنشطتها أكثر من 200 ألف يهودي أميركي، وقدمت دعما ماليا لنحو 163 مرشحا في انتخابات التجديد النصفي بمجلس النواب، وأصبحت محطة لكبار المسؤولين الأميركيين مثل وزير الخارجية بلينكن. إن “جي ستريت” و”أيباك” تلتقيان في دعمهما لإسرائيل وأمنها، لكنهما تختلفان في الوسائل التي تقود إلى تحقيق ذلك، فإحداهما تعكس نهج الصقور الذي يتبنى الدعم المطلق، والأخرى تعكس “وجه الحمائم” الذي يحبذ القوى الناعمة على الأدوات الخشنة.
المصدر : الجزيرة