موقع مصرنا الإخباري:
أكثر من خالد وأكثر من قصة، هذا ما ربحته في لقائي مع الفنان خالد الصاوي؛ من أجل إعداد كتاب تكريمه في الدورة 37 لمهرجان الإسكندرية لسينما دول البحر المتوسط، بينما كنت أحاول أن أقترب من صورته كفنان يشكل نموذجًا مميزًا، إذ صادفتني القصص الغنية بمعطيات ووقائع تكشف أن حياته يستحيل حكيها في سردية واحدة، ويصعب تجاهل الهوامش فيها، إنه شغوف بالهوامش؛ منها يُحدد زاويته لرؤية الجوف وتشعباته، ومنها يلتقط الوجوه التي تعينه سواء في مشروعه التمثيلي.
ثمة أكثر من خالد نعم! إنه ابن التراث الإنساني وثقافته الواسعة، لكن الجذر المصري ضارب فيه، يرسم خطه البياني ويصوغ حبه اللا محدود للبلد وناس البلد، ويفسر صلابته وروحه الساخرة، ابن نكتة مثل كل المصريين، يتهكم حتى في أصعب الأوقات ولديه هذا الحزن الخفيف المصاحب لابتسامته الساخرة، ومثل المصريين أيضًا يستخدم جسده في التعبير.. إيماءاته، حركة يديه، ما يعكس نوعًا من التلقائية والبساطة، ونوعًا من التنفيس عن المشاعر الداخلية والإيقاع الخاص.
كما أن جذره السياسي، الوطني، الممتد في عائلة مناضلة، حفر في وجدانه تجربة شعورية وحياتية، مستحوذة على الانتباه بكل معنى الكلمة، مؤثرًا تارة في ميله إلى التمرد؛ إعصار لا يمكن إيقافه، وتارة في نزوعه إلى التسامح، وهذه صفة أخرى تتعلق بمصريته التي لا يتعمد التباهي بها، لكنها تطل في سلوكه ومن بين كلماته وحتى تعلقه بالفن على كافة أشكاله.
يوجد كذلك خالد المخرج، الممثل، كاتب السيناريو، القصاص، الشاعر الذي أحسب أنه لن يكف عن الكتابة حتى لو أعلن أنه تفرغ لمشروعه كممثل فقط، تطوقه فكرة إكتشاف العالم من خلال الفن، مدركًا أن الخيط الفاصل بين الحقيقة والوهم رفيع، ولعل هذا ما يجعله حذرًا إلى حد كبير في أدائه التمثيلي، لكن أيهما أقرب إلى قلبه وعقله: الوقوف أمام الكاميرا، أم اعتلاء خشبة المسرح؟
تصعب الإجابة الحاسمة على سؤال مرتبط، أصلًا، بمسار طويل من التحديات والأسئلة والتفاصيل الحياتية والإنسانية. أردتُ معرفة هذا العالم الخفي في ذات خالد الصاوي، وفضائه الروحي، فقمت بالطواف معه في رحلته المترعة بالحكايات المتوهجة في مضمونها وهامشها.
خالد الصاوي يبقى واحدًا من قلة نجحت في أن تجعل الوقوف أمام الكاميرا تمرينًا لعظمة الأداء؛ في توغله الواسع داخل الشخصية، يفعل ذلك بما لديه من طاقة كبيرة تظهر في أدائه المسرحي والسينمائي والتليفزيوني.
لابد أن هناك حدْسًا قويًا يتمتع به دفعه لأن يختار طريقًا مختلفة، طريق وعرة ومضنية، ربما أشقته حينًا وأسعدته أحيانًا، لكنها غنيمته التي ظفر بها من تسلق الأسوار الشائكة..
هل لعبت الصدفة دورًا ما في تأسيس الحضور السينمائي لخالد الصاوي، أم أن جديته هي التي رشحته بعد عدة أدوار صغيرة، ليجسد شخصية جمال عبد الناصر في فيلم يحمل اسم عبد الناصر وصورة خالد، ويواصلها فيما بعد بأدوار وافرة التنوع؟.. سؤالي ليس مجرد تفصيل هامشي، لكن يمكن اعتباره إشارة دالة على أنه لا يُمكن للصدفة، وحدها، أن تصوغ مسار إنسان وضع ذاته كلها في خضم معركة كبيرة وقاسية، أعني بالمعركة هنا “التمثيل”، ولا أقصد بها المشاحنات أو الضيق أو ضغوط الحياة، أو حتى العراقيل المادية والمعنوية والثقافية التي تحاصر المشاريع الإبداعية، بل ما أردته هو التأكيد على المواجهة بين الحلم والواقع.
البدايات تكون عادة صعبة، فلا يتحكم الفنان كثيرًا في اختياراته، إذ تضطره الرغبة في العمل على اختيار المتوفر أحيانًا، حتى تستقيم أموره ويصبح قادرًا على انتقاء الأفضل والأنسب، إنه ما حدث مع خالد الصاوي بكل ما يتمتع به من جاذبية الإبداع وحُسن التواضع الإنساني، وهذا ما يختصره مساره التمثيلي التصاعدي، من ناحية مستوى حرفيته التمثيلية، أو المستوى الإجمالي للأعمال التي يشارك فيها.
بهذا المعنى، يُشكل خالد الصاوي حالة لها رونقها في المشهد الفني المصري، ممثل يمتلك ميزات “الصنايعي” الماهر، لكنه لا يتردد أحيانًا عن التمثيل في أعمال لا ترتقي إلى مستوى حرفيته، ربما لأنه مشغول بالتنوع، الذي قد يقوده إلى اختيارات متناقضة، وربما لأنه لابد أن يتوفر له عمل يُعينه على المعيشة كما أخبرني في حواري معه، لكنه في كل الأحوال يتقن أدائه بالدرجة التي تجعله الأجمل، بصرف النظر عن تقييم الفيلم أو العمل الفني الذي يظهر خلاله، فلديه هذه القدرة على إيجاد توازن متين بين براعة التمثيل، وبين السماح للممثل أن يختبر كل الأعمال المطلوب منه تمثيلها.
في تصوري كان هذا أمرًا يسيرًا لصاحب البطولات الكبيرة والأدوار المتنوعة، ضمتها قائمة بلغت نحو ما يقرب من 90 عملًا ما بين السينما والمسرح والتليفزيون، وتباين حضوره السينمائي فيها من بطولته في فيلم “جمال عبد الناصر” لأنور القوادري، وفيه يتبين أن خالد الصاوي متمكن من فعله التمثيلي، إلى شخصية حاتم رشيد في “عمارة يعقوبيان” لمروان حامد، الشخصية الشائكة التي وضعته في مصاف الممثلين الكبار، كذلك حضوره الخاص في “الفاجومي” لعصام الشماع، فعلى الرغم من مشكلات الفيلم، نجده يختزل عفويته الطالعة من مؤدي محترف، إضافة إلى أدوار الشر ما بين قصص تدور في عالم رجال الأعمال وقصص أخرى تغوص في العالم السفلي للمدينة، ما بين المظهر الأنيق، وبين المظهر الخشن الطالع من أعماق القهر الاجتماعي، فإنها تعكس قناعاته في التشكيل والتواصل مع كل الأطياف.
تطول القائمة لتشمل أعمالًا، تفيض بحيوية فنان عرف كيف يمسك بوحش التمثيل، وأنجز مشروعه بشكل مثير للاهتمام، وأسلوب يستحق التوقف النقدي عنده والإشارة إليه، ودراسته كظاهرة فنية أخاذة ومغرية بالأسئلة.
بقلم ناهد صلاح