عندما أطلق الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، دعوته بتأسيس “جيش أوروبى موحد”، بدعوى أن “الناتو مات إكلينيكيا”، ربما اعتقد البعض أن الأمر مرتبطا بخطاب الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، والذى استخدم ورقة التلويح بالانسحاب من حلف شمال الأطلسى، عدة مرات، للضغط على الشركاء فى أوروبا، لدفع التزاماتهم المالية تجاه التحالف، خاصة وأن واشنطن تعد أكثر من تتكبد خزانتها، تكاليف العمليات الأمنية، سواء على أراضى الحلفاء، أو فى المناطق التى تمثل أهمية استراتيجية لدول المعسكر الغربى برمته، وفى القلب منها بالطبع الولايات المتحدة، ودول أوروبا الغربية.
إلا أن الدعوة الفرنسية ربما لم تكن مرتبطة باستثنائية خطاب ترامب، بينما كانت رؤية الإدارة السابقة هى الأخرى، لا ترتبط بشخص الرئيس، وإنما كانت تمثل انطلاقا لاستراتيجية جديدة، تقوم فى الأساس على تخفيف الأعباء الأمنية، التى وضعتها الولايات المتحدة على كاهلها منذ عقود طويلة من الزمن، وتحديدا منذ الحرب العالمية الثانية، والتى تزايدت بطبيعة الحال، فى أعقاب الحرب الباردة، خاصة مع محاولات أمريكا وحلفائها التضييق على موسكو، عبر اقتحام محيطها الجغرافى، سواء عبر توسيع الناتو تارة، وضم المزيد من دول أوروبا الشرقية إلى كتلة الاتحاد الأوروبى تارة أخرى، وهو ما ساهم فى زيادة التكلفة التى تتكبدها الخزانة الأمريكية خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
فلو نظرنا إلى سياسات الرئيس جو بايدن، خلال أشهره الأولى التى قضاها داخل البيت الأبيض، نجد أن التوجه الأمريكى لا يشهد اختلافا كبيرا، سوى فى حدة الخطاب، حيث يبقى خطابة ناعما، تجاه الحلفاء، إذا ما قورن بخطاب سلفه، إلا أنه تبنى نفس النهج الأحادى، فى التعامل مع الكثير من القضايا، وعلى رأسها الانسحاب العسكرى من أفغانستان، والعراق، ليضع أوروبا فى مأزق حقيقى، فى ظل ارتباط الخطوة الأمريكية بالكثير من المخاطر التى ربما تلحق بدول القارة العجوز، سواء أمنيا او اقتصاديا، حيث تبقى حالة الفراغ المحتمل، على الجانب الأمني، المترتبة على الانسحاب الأمريكي، دافعا إلى تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين، إلى دول الاتحاد الأوروبى، وهو ما يساهم فى المزيد من الضغوط الاقتصادية، ناهيك عن احتمالات تسلل عناصر متطرفة، يمكنها القيام بعمليات جديدة، داخل دول القارة فى المستقبل القريب.
وهنا تصبح قرارات بايدن بالانسحاب العسكرى، امتدادا لاستراتيجية أمريكية تحمل عدة مسارات متوازية، أولها استمرار النهج الأحادى، بعيدا عن سياسة “جماعية اتخاذ القرار” بين دول المعسكر الغربى، والتى تبناها الرئيس الأسبق باراك أوباما، بينما يمثل المسار الثانى امتدادا لسياسة الانسحاب العسكرى، والتى بدأها ترامب بالخروج من سوريا، فى انعكاس صريح لتخلى واشنطن عن دورها الذى وضعته على عاتقها منذ هيمنتها على النظام الدولى، عبر حماية الأمن العالمى، فى حين أن المسار الثالث يقوم على فكرة التخلى عن الحلفاء الأوروبيين، بل وتصدير الأزمات لهم، عبر الإخلال بالأمن فى دولهم، مما يهدد بالمزيد من الإرهاب، والمشكلات الاقتصادية، فى الوقت الذى تواصل فيه أمريكا نهجها نحو إعادة هيكلة تحالفاتها، عبر التحول إلى المحيط الهادئ، لمجابهة الصين، والتى باتت ألد أعدائها، على حساب معسكرها القديم، والذى أصبح “منتهى الصلاحية”، مع المعطيات الدولية الجديدة.
وبالتالي، تبقى الدعوة الفرنسية بإنشاء “جيش أوروبى موحد” تحمل الكثير من “الوجاهة” السياسية، خاصة وأن الاعتماد على واشنطن ربما لم يعد مجديا، وهو الأمر الذى بدا واضحا فى مقترحات أوروبية جديدة، بإنشاء ما يسمى “قوة رد سريع”، لتكون جزء من منظومة الاتحاد الأوروبى، فى المستقبل، وهو ما يمثل إحياء للرؤية التى أطلقها ماكرون فى 2018، والتى أثارت حينها الكثير من الجدل، حتى بين الدول الأوروبية، التى أكدت فى ذلك الوقت فاعلية الحلف، ربما أملا فى تغير الخطاب الأمريكى فى مرحلة “ما بعد ترامب”، إلا أن الواقع لم يكن كذلك.
بقلم
بيشوي رمزي