موقع مصرنا الإخباري:
يضعنا المخرج المغربي إدريس الروخ في القلق منذ البداية، يلعب بأعصابنا المنهكة كما يلعب محترف متبصر بلعبته، وبالاستعداد النفسي للجمهور.. هذا هو سره وطوية فيلمه “جرادة مالحة”، الحاصل على جائزة أفضل إخراج في مسابقة نور الشريف للفيلم العربي بالدورة 37 لمهرجان الإسكندرية لدول البحر المتوسط، الفيلم الذي شارك في كتابته مع عدنان موحاجة، والاثنان شاركا أيضًا في التمثيل مع كل من: منى الرميقي، عبدالرحيم المنياري، فاطمة الزهراء بناصر، خنساء بطمة وأخرون.
في البداية تظهر امرأة تركض في غابة وهي تمسك بملف لونه أصفر بإحدى يديها، نسمع صوت الطبيعة يختلط بأنينها وبكائها ولهاثها، تركض والموسيقى تشحذ الصورة حتى تكاد أنفاسنا تتوقف، ثم نراها فجأة نائمة في سريرها الوثير، فهل كان هذا كابوسًا؟.. لا نعرف!.. إنها تنظر إلى الوسادة الخالية بجوارها في حزن ثم إلى الصورة على “كومودينو” المجاور للسرير، إنها صورة هذه المرأة يبدو أنه زوجها، منبه تشير ساعته إلى الثانية صباحًا ودبلة زواج ومنفضة سجائر مليئة ببقايا السجائر.. على يبدو أنها عاشت ليلة عصيبة.. تتسلل الموسيقى هادئة، شجية، متساءلة، هي مفتتح الحكاية واستفهام لبداية محيرة، تفتح الباب للشك في ماهية هذه السيدة وهل هي الجزء الذي سنتعاطف معه في هذا الفيلم أم العكس؟!.
يكاد المُشاهد يضيع في متاهة إلتباس جميل مصنوع في الفيلم الروائي الطويل الأول لإدريس الروخ، بعد مشوار حافل في المسرح والدراما التليفزيونية، فالعنوان يؤشّر إلى خشونة أو صلابة ما، يصعب معها أكل الجرادة، فما بال لو كانت هذه الجرادة مالحة؟! من هنا وكما يقول المثل الشعبي: “الجواب يبان من عنوانه”، فإن هذا العنوان، يدخل عميقًا في الجوهر ويقدم خُلاصة الفكرة الموغلة في الواقع، والمستندة على الخيال الشاسع في ذات الوقت.
حسنًا! إننا نعرف الفيلم من عنوانه الذي يُحيل إلى لعبة وأغنية ذائعة الصيت في التراث المغربي: “أجْـــرَادَة مَـــالْــحَــــــة/ فِــي كُـنْـتـِـي سَـارْحَـــة/ فِـي جْـنَـانْ الصَالْـحَـــة/ آشْ كْلِيتِي آشْ شْرَبْتِـي/ غِيرْ التْـفَـاحْ وْالنَّـفـَـاحْ/ْ والحَـكْـمَـة بإِيــدِيـــكْ/ يَاالْقَـاضِي يَا بُـو مْفْتَـاحْ/ إيوَا مْشَاتْ حْكَايْتِي مِنْ وَادْ لْوَادْ وْمِنْ بْلاَدْ لَبْلاَدْ، يَحْكِيهَا الْجْدَادْ لِلصَّبْيَة وْلْحْفَادْ”.. تحمل الأغنية دلالات عدة أبرزها أن هناك امرأة راسخة، مُقاوِمة، يتعسر سرقتها أو إلتهامها، لأنها تكون مثل الجرادة المالحة، لا يمكن قضمها أو ابتلاعها، وحسب المقولة الشعبية أيضًا: “لحمها مر ما يتاكلش”، أي يكون لحمها مُرًا ومستعصيًا على الأكل.
الفيلم لا يستوحي عنوانه من التراث الشعبي ومن ألعاب الطفولة هباءً، وإنما يخوض به في مساحة أخرى، مساحة تتسم بـ”العصرنة”، إن جاز التعبير، سواء من ناحية الموضوع المطروح أو طريقة تناوله، بحيث يحقق نقلة نوعية ليس في الموضوع السينمائي المغربي فقط، وإنما المجتمعي أيضًا، فالمادة الدرامية لـ”جرادة مالحة” تتمتع بتفاصيل متنوعة مكتوبة بلغة بصرية متماسكة في ترجمتها السينمائية، ويحمل الشكل الفني لهذه المادة لحظات جميلة في سردها، حكاية الصراع العنيف بين ما هو إجتماعي خاص، وبين ما هو أشمل وأعم.
من العنوان إلى الحكاية نفهم من الأحداث أن جرادة مالحة هي اسم منظمة غامضة، تسعى لصناعة امرأة تكون “جرادة مالحة” على طريقتها، نموذج تستخدمه لتحقيق أهدافها الملغزة في هذا العالم.. أجواء غريبة، غير تقليدية تجتاح الأحداث، تجعل الحكاية تتأرجح بين الدراما النفسية وبين الفانتازيا إلى قصة من قصص الجريمة المثيرة بما تحتويه من توجس، يتسلل إلى المُشاهد؛ فيتشبث بمقعده وهو يشاهد البطلة تواجه مصيرها بمفردها، أو يشاركها الركض واللهاث لمعرفة اللغز وراء حالتها، حتى أنه يصبح من المشروع أن نسأل أنفسنا ما نشاء: ماذا لو كنا مثل هذه المرأة، نصحو فيعترينا شعورًا ما بأن ما نعيشه ليست حياتنا، وأن هناك خطأ فادح في واقع اكتفينا من مهارته في القسوة وصنع الإحباط؟..
إدريس الروخ عبر فيلمه يتوغل في النفسية البشرية بمنحى فلسفي، في محاولة للوصول إلى إجابة عن السؤال الوجودي: من نحن؟ وما هو دورنا بالحياة؟.. إنه سؤال عام وحقيقي، لكنه هنا يقودنا إلى الإجابة عبر امرأة في منتصف الثلاثينيات، تجد نفسها في شِباك منظمة سرية، تعمل على تغييرها بالكامل وتخليق شخصية جديدة منها تحت السيطرة التامة، من هذا المنطلق يتحدث الفيلم عن علاقة سيكولوجية ولعبة خفية تحيط بهذه المرأة وتحدث داخلها، ومن خلالها يخلق التلاعب نوعًا من القلق الداخلي، ويؤزم وضعية البطلة، كما يصبح مجال الفيلم أوسع للتعبير عما يخالج تفكيرنا، وما يقدمنا للعالم الآخر بشكل يجعلنا نبرهن عن نضوجنا وانفتاحنا على الفهم والتفكير والاقتراب من الحقيقة، فـ”جرادة مالحة” أو المرأة التائهة بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها يتحدث عن هذه الإشكالية النفسية العميقة، ومن يحاول أن يستخدمها كلعبة في أغراض سياسية أو أشياء أخرى، وبالتالي تصبح كنموذج بشري مجرد أداة للتجارب، ما يعني أنها فقط مؤثثة لفضاء لا تعلمه وليست فاعلة فيه بحضورها الحقيقي.
من التلصص إلى اللعب بالذاكرة وتغيير المصير، الحكاية معقدة وليست بسيطة، تدور حول أحد المخاوف الكبرى في عصرنا هذا، فربما كانت مخاوفنا من قبل قد تركزت على الحروب أو حتى عوالم ما وراء الطبيعة، وهو ما عبرت عنه السينما عربيًا وعالميًا في عصور مختلفة وحتى الآن، وكذلك فعل عدد كبير من الأعمال الدرامية، لكن المخاوف هنا تتسلل إلى حياتنا الشخصية، حياتنا التي أصبحت بلا معنى أو هدف من ناحية، كما أصبحت منتهكة من ناحية أخرى، ما يستوجب شكلًا من أشكال الهلع والذعر من الفكرة ذاتها، يكتمل هذا الشعور بأن حياة بطلة الفيلم، التي تعبر عن حياتنا، أصبحت مجمدة بلا طعم؛ ويزيد عليها أنها حياة أصبحت مخترقة ومسروقة، ومن هذه الزاوية فإن هاجس المراقبة يتسلل إلينا عبر الفيلم، هناك عين متسلطة تراقب وتحرك الحدث.
الأمر مخيف للغاية يطرحه “الروخ” مغلفًا بطابع تشويقي، مطاردة وعنف وتشوش، كما للفانتازيا ركنٌ فيها، فبدا متأثرًا بالنَفَسْ الأمريكي في صناعة الفيلم، حيث التشويق والمطاردات وحبس الأنفاس مسائل معتادة في أفلام أمريكية، ناقشت هذه النوعية من الأفكار، لكن “جرادة مالحة” بدون النجوم أصحاب العضلات المفتولة، أو الأبطال الخارقين في مغامراتهم المختلفة، إنه عمل منسوج بمخيّلة إلتقطت معالم الواقع المعاصر، بلغة روائية وفنية منفتحة على الأسئلة الإنسانية والاجتماعية والفنية المتنوعة.. كادرات تتسع وتضيق لتحمل أفعالًا تعبر عن الحدث، فالصورة كما قدمها مدير التصوير ” لو كاسو كان” ليست أسيرة نمط واحد، ينشغل بالنمط التشويقي، وإنما تغوص في التفاصيل الصغيرة، فتلتقط ملامحًا للروح والاضطراب النفسي، ما يعمل على تأجيج المشاعر والانفعالات، ويمنح الفيلم بعدًا جماليًا وإنسانيًا، وهذا جزء من السينما وسحرها، يضاف إليه التحريض على التفكير والتأمل في فضاء مفتوح على احتمالات وفيرة.
حينما يبدأ الفيلم في طرح فكرته، بكادر واسع لامرأة تركض في غابة، إلى كادر نفس المرأة تنام في سريرها، يطالعنا استهلال زاخر بالتفاصيل الصغيرة في فيلم مدته نحو ساعتين: الصور، دبلة الزواج، المنبه، منفضة السجائر، الهاتف المحمول.. تنهض المرأة وتشعل سيجارتها، تنظر إلى هاتفها، تدخل الحمام، تغتسل، تطل من نافذتها لتشاهد امرأة ورجل، تدخل خادمتها بأدويته، تتكاثر الأسئلة مع هذه التفاصيل: من هذه المرأة المتعكرة المزاج التي تناولها خادمتها أدويتها، يطول الوقت ثم تتضح المسائل تدريجيًا، يُعاد المشهد بزوايا أخرى، فالحقيقة لها أكثر من وجه، وفي رأيي هذا ما أدركه مدير التصوير في توزيع إضاءته خلال كادراته البصرية بضوئها وظلها، بما يلائم الموضوع والتباساته، هذا ما فعلته أيضًا موسيقى “لوي مو نصو”، في خلق جو الإثارة والتوجس، المتأرجح بين الواقع والوهم،.. كان تدفق الألحان الرئيسية في الفيلم واضحًا ومكتوبًا بأسلوب تمتزج فيه الشاعرية بالقلق، بما يشبه أسلوب الفيلم عمومًا، إذن فإن الكاميرا نقلت حالة المناخ الضاغط والخوف والهرب، وشكلت حركتها غطاءً ضروريًا لممارسة التمرين البصري، ولرفع نسبة التوتر عند المُشاهد الذي يجد نفسه متورطًا في هذه اللعبة سريعًا، ثم تماهت الموسيقى مع هذه الحالة، وساندهما مونتاج “أيوب جادا” المصنوع بكثير من الحرفية التقنية، فكانت النتيجة التي قدمها طاقم متكامل من العمل التقني المتقن في كل تفاصيله، تحمل قدرًا كبيرًا من الإثارة والتوتر والتشويق، ساهم فيها بالتأكيد أداء الممثلين الذين استوعبوا الهدف من الحدوتة.
في النصف الأول من الفيلم، نتابع امرأة اسمها رانيا تدور حول نفسها، ما بين سيجارتها ودواءها وكأسها وهاتفها الشخصي الذي تعاود النظر في شاشته، كما لو كانت تنتظر أحدًا، تناولها الطعام بمفردها، طريقة تعاملها مع خدمها، ثم خروجها بالسيارة ومصادفتها لـ”حليم”، ضابط المرور الذي نستشعره أنه يبادلها قصة حب، ثم مرورها بمحطة البنزين ومقابلتها “شرقي” الرجل الذي يرتدي الأبيض ويجهز لها القهوة، نفهم لاحقًا أنه طبيبها ويعطها أدوية خاصة، وذهابها واقتحامها غرفة المغنية في الملهى الليلي واتهامها إياها بوجود علاقة بينها وبين “عمر” زوجها المختفي، وعندما يظهر “عمر” تكون قد انتابتها ومضات وصور غريبة في ذاكرتها المشوشة، تتشاجر معه وتقتله دون عمد أثناء المشاجرة.. الحكاية حتى هنا تبدو عادية لامرأة غاب زوجها، فأصابتها جنون الغيرة والظنون، حتى يتكشف الأمر في الجزء الثاني من الفيلم، لنجدها امرأة شاردة في متاهة مصنوعة.
لغز يُسلَم لأخر ورانيا لا تفهم شيئًا، عمر يختفي من صورها ومن حياتها كليًا، الجميع ينكرون معرفته وينكرون أنها متزوجة أصلًا، وهنا يدرك المشاهدون الغاية المرجوة وممارسة لعبة مدمرة عليها، إنها لا تدرك أن عالمها مصطنع، لكنها ترتاب فيه، وهذا ما نكتشفه بالتدريج من خلال شاشات المراقبة التي وضعت لها، وبتصاعد الأحداث نعرف محاولات تخريب ذاكرتها، لكن المنظمة السرية لم تحسب أنها شخصية عصية، خصوصًا حينما تكتشف المرأة أنها ليست رانيا في الأساس، وأن اسمها الحقيقي أمل، وتخرج من حيز الارتياب إلى الحقيقة البحتة التي تضع حدًا لشكوكها، فيحاصرونها ويقضون على “أمل” نهائيًا وتظل رانيا، الشخصية التي أرادوها، تظهر في قصرها وقد تزوجت من حليم في نسخته الجديدة، وتم انتخابها رئيسة في هذا العالم المتخيل، وفي حفل ستلقي فيه كلمتها، تراوغها ذاكرتها من جديد، ويتسلل بداخلها صوت يقول: “أمل حِلي عينك ” بمعنى إفتحي عينك، نهاية صادمة للمنظمة الغريبة التي وضعت في الخلفية لافتة مكتوب عليها: ” لأجلكم نصنع جيل المستقبل”.
يحمل الفيلم سؤالًا فلسفيًا ونفسيًا طالما أنهك الفلاسفة والعوام: هل الحياة التي نعيشها حقيقية؟.. إنه بكل حال فيلمًا غير عادي ويشكل مغامرة يشرع بها إدريس الروخ مشروعه السينمائي، تجربة مغايرة لما عهدناه في السينما المغربية، وتفيض هذه المغامرة باختياره “منى الرميقي”، ممثلة لأول مرة تكون بطلة لفيلمه، وإن أسهمت الرميقي بحضورها الأخاذ في نجاح هذه المغامرة.
إن البطلة هنا هي نموذج للضياع الإنساني، هذا ما تفسره الترجمة الانجليزية للفيلم وهي “`The Lost”، نموذج له عمقه ودلالته في عمل منسوج بمخيلة لم تلتقط معالم الواقع المغربي كما اعتدنا في أغلب الأفلام المغربية، وإنما الواقع البشري عمومًا، فالموضوع هنا ليس محليًا وإنما كونيًا، تم نقله إلى المتفرج في إطار توليفي، وجاءت صياغة لغته مشغولة بجمالية التنقيب عن مفردات داخلية سواء غريبة أو مألوفة.
المهم أنها لغة مستلة من بشريتنا، الدقة في اختيار تفاصيل صغيرة، والوضوح في سبر أغوار الذات الإنسانية من خلال هذه التفاصيل الصغيرة، منحا الفيلم بعدًا إنسانيًا وجماليًا، منفتحًا على الأسئلة الإنسانية والاجتماعية والفنية المتنوعة، جعله مرآة للذات الفردية وللعالم التائه، من خلال هذه المرأة المسروقة ذاكرتها وحياتها، لكن هذه السرقة كما سبق أن أشرنا لم تكن يسيرة، لأنها امرأة مثل الجرادة المالحة بما تحمله الكلمة من معنى، حسب التراث المغربي وليس حسب أغراض المنظمة السرية، ليبقى فيلمًا مشغول بحرفية عن المرأة وعن المقاومة وعن التغير الكوني العاصف في الذات الإنسانية، وأيضًا ينتمي إلى مشروع إدريس الروخ كمخرج وكممثل يطمح في التنوع والانفتاح على الأخر.
نعم التجربة جديدة على صناعة الفيلم المغربي، تقدم أفكارًا جديرة بالتأمل حول ضياع المعنى من حيواتنا، وحول هاجس المراقبة في عصرنا، وتعرض الإثارة كنوع سينمائي، يستمد طاقته من قوة الخيال في صنع مشاهد بصرية قابلة لأن تحيل المتفرج إلى كتلة من التوتر والارتباك والقلق والرغبة في إنهاء الكابوس، لهذا كله، لا يستطيع المتفرج المتواصل مع متاهة “جرادة مالحة” أن يبتعد عن المناخ المتوتر في الواقع العام، ما يسهم إلى حد ما في فهم الفيلم واستيعاب قراءته وتأويله للسلطة واللعب السياسية، وربما يحمل المشهد الختامي دلالة أخاذة على ذلك، كما يشير إلى أن هذه المرأة “المختارة” هي بالفعل جرادة مالحة يستعصى أكلها، كما يحمل اسمها دلالة أخرى على الأمل من التخلص من كل هذا الوهم، كل ما عليها أن تفتح عينيها للاستفاقة من الكابوس:” أمل .. حلي عينك”.
بقلم ناهد صلاح