موقع مصرنا الإخباري:
“الصراع على كتب التاريخ”.. عنوان يبدو مهيمنا على الساحة الدولية فى السنوات الأخيرة، في ظل المساعى التي تتبناها العديد من القوى طمس تاريخ منافسيها، عبر العديد من الأليات، كالتشويه، أو التشكيك، أو من خلال إضعافها، حتى لا تقوى على استعادة أمجادها، وهو ما يعكس أن ثمة حالة من الهلع لدى القوى ذات الإمكانات الكبيرة، تجاه أمجاد الدول ذات التاريخ الكبير، وما قد يتركه من طموحات، لاستعادته، وبالتالي مزاحمتها على المكانة الكبيرة التي تحظى بها، في الخريطة الدولية، لتصبح التحالفات الدولية مرتبطة، في جزء منها باعتبارات التاريخ، جنبا إلى جنب مع المواقف السياسية، والقوة الاقتصادية، والواقع الجغرافى وغيرها من العوامل الأخرى، التي تمثل معايير مهمة عند اختيار الحلفاء، خاصة من قبل القوى الدولية والإقليمية المهيمنة على العالم.
ففي الوقت الذى ارتبطت فيه العلاقات الدولية بمفهوم “الصراع”، على اعتبار أنها تقوم في الأساس على تحقيق المصالح الخاصة بكل دولة، يبقى “الصراع على التاريخ” هو أحد أهم أدواته، وإن كان يتوارى في العديد من المراحل خلف أولويات أخرى، منها الحاجة في مراحل معينة إلى الاستناد على قوة دولة بعينها، أو لتحقيق أهداف اقتصادية من شأنها تحقيق التنمية في مراحل أخرى، إلا أن التاريخ يبقى في الكثير من الأحيان أحد “منغصات” العلاقة، حتى بين أقرب الحلفاء.
فلو نظرنا، إلى الولايات المتحدة، باعتبارها النموذج الدولى الذى يبقى مهيمنا على النظام الدولى منذ عقود طويلة من الزمن، نجد أن ثمة اختلافات كبيرة، من حيث القوى التي تحظى بلقب “الحليف الأكبر” لواشنطن، بحسب الكثير من الاعتبارات، والتي لم تتجاوز مسألة التاريخ في معظم الأحيان، فبعد الحرب العالمية الثانية، كانت بريطانيا هي أقرب حلفاء أمريكا في أوروبا، بسبب التقارب السياسى واللغوى، بين البلدين، إلا أنه بالرغم من ذلك لم تنسى واشنطن التاريخ الاستعمارى للندن، والذى كانت أمريكا نفسها جزء منه، خلال فترات كبيرة من تاريخها.
تاريخ لندن الاستعمارى، دفع واشنطن، رغم تحالفهما القوى، إلى العمل منذ الخمسينات من القرن الماضى، على تقوية اقتصادات دول أوروبية أخرى، على غرار ألمانيا، لتحل يوما ما محل الحليف البريطاني، وهو ما تحقق تدريجيا بعد نهاية الحرب الباردة، وسقوط حائط برلين، ليصل إلى ذروته إبان حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما، والذى اعتبر برلين الشريك الرئيسى لإدارته في القارة العجوز، على حساب بريطانيا.
وحتى التقارب الأمريكي الألماني، لم يحدث إلا عبر إجراءات متوازية، تقوم على تجريد برلين من قوتها العسكرية الكبيرة، في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
الشرق الأوسط لم يكن بعيدا عن مقاربات التاريخ الأمريكية، ففي الوقت الذى اعتمدت فيه واشنطن على العديد من القوى العربية في المنطقة، لعقود طويلة، اتجهت بعد ذلك، وخاصة إبان ما يسمى بـ”الربيع العربى”، نحو التشويه تارة، والتقسيم والإضعاف تارة أخرى، لصالح قوى أخرى، ليس لديها تاريخ يسمح لها بالخروج من “عباءة” واشنطن يوما، لتقوم تلك القوى بدورها في تنفيذ المخطط الأمريكي، عبر آلتها الإعلامية، ودعم الفوضى وعدم الاستقرار، في الدول المستهدفة، طمعا في النفوذ، بالإضافة إلى تقديم “فروض الولاء والطاعة” للقوى المهيمنة على العالم، ناهيك عن تعويض “عقدة النقص” جراء ماضيهم الضعيف.
إلا أن السلاح الأكبر، والذى يبقى الأكثر تأثيرا، في تلك المعركة، هو تغييب الوعى داخل تلك الدول التي تستهدفها حروب “كتب التاريخ”، ليصبح مواطنيها، هم بمثابة الوقود الذى يمكن من خلاله إشعال نار الفتنة، وهو ما يبدو في استهداف الأثار التاريخية، من قبل بعض المتطرفين هنا أو هناك، تحت شعارات زائفة، ترتبط بالدين والأخلاق، بينما يبقى الهدف الحقيقى هو طمس التاريخ.
وهنا يصبح الوعى معركة الدول المستهدفة، لتدرك شعوبها أن التاريخ يبقى جزء من حاضرها، فأمجاده تمثل إلهاما من أجل حاضر مجيد، بينما أخطاءه هى بمثابة الدروس التي ينبغي أن تكون منطلقا لتحقيق الإصلاح، من أجل مستقبل أفضل.