موقع مصرنا الإخباري:
تصبح قراءة هذا الكتاب ذات مغزى أعمق وفائدة أكبر، حين نقرأ صفحاته ونفكّر في الوقت ذاته بما يجري سياسياً في عالم اليوم وبالتحديد بعد استلام إدارة بايدن في الولايات المتحدة.
في كتابه “نظام التفاهة” اخترق ألان دينو كلّ طبقات الاستعمار للأرض والإنسان والعقل البشري ودخل إلى تلافيف صناعة المال في النظام الرأسمالي، وانعكاس تطوير هذه الصناعة على الحياة البشرية في كلّ ركن من أركان المعمورة. وكيف أنّ هذه الصناعة قد شوّهت النظم الأساسية والمنطقية للحياة السليمة والنظم القيمية والأخلاقية لدى أناس لم يدركوا أحياناً مقدار التشوّهات التي لحقت بهم.
وفي الفصول المختلفة والشيّقة للكتاب حلّل بعمق وإقناع واقتدار كيف تسلّلت هذه الصناعات والنظم الرأسمالية إلى حياة البشر، فغيّرت من معانيها ومفاهيمها ومقاصدها، وأدخلت العنصر البشري في سباق لم يكن هو بحاجة له في المكان الأول فبدّدت طاقته ووقته وعلاقاته الاجتماعية والوطنية ليحصل على شيء ليس له قيمة بحدّ ذاتها، بل هو بالأساس وسيلة للعيش، ألا وهو المال.
فقد نفذ إلى عمق المعادلة الخطيرة التي يعاني منها معظم الناس دون أن يدركوا سبب معاناتهم، ألا وهي لهاثهم لتكديس أموال كان دورها في البداية مجرّد وسيط للحصول على السلع ولتسهيل قضاء حوائج الناس، ولا قيمة لها بحدّ ذاتها إذا تراكمت، أو لا دور لها في الأصل إلّا كوسيلة، ولكن حين بدأ السباق المحموم، والذي حوّلها إلى غاية بحدّ ذاتها دون التوقّف للتفكير ما هو المراد بهذه الغاية حينذاك، بدأ الشقاء يحلّ بساكني المعمورة.
وطبعاً ترافق مع اختراع هذه المعادلة اختراع سبل ووسائل لإعطاء الوجاهة لمن يحظى بكمية أكبر، فتمّ إيجاد التمايزات في الإنفاق، وسبل العيش لتشكيل منظومة تجعل من السعي إلى الحصول على المزيد من الثروات أمراً ضرورياً للبقاء في هذا الفلك المتميّز.
وبما أنّ الثروات أتت تاريخياً من نهب ثروات شعوب المستعمرات والبلدان النامية، فقد تطلّب هذا الأمر أيضاً منظومة سياسية واجتماعية وفكرية تفكك البلدان الغنية بالثروات الطبيعية، وتضمن تهلهل الحكم فيها وتقويض أسس الدولة القوية المتماسكة عبر الشراكة مع بعض المسؤولين الفاسدين واختراع أنظمة المنظمات غير الحكومية وتسليط الأضواء الساطعة على الفُتات الذي يقدمونه بديلاً لقوة ومكانة مؤسسات الدولة، والأمان الذي تقدّمه هذه المؤسسات مقارنة مع الانبهار الإعلامي بمشاريع لا تقدّم ولا تؤخّر في حياة المجتمعات. تقوم بها المنظمات غير الحكومية لتبرير وجود الشركات المتعدّدة الجنسيات والتي تتبرّع لهذه المنظمات بالفتات كي تنهب كلّ مقدّرات البلدان وتترك شعبها في النهاية فريسة للفقر والأمّيّة والجهل والعوز والتبعيّة.
كتاب “نظام التفاهة” وبفضل مترجمته القديرة الدكتورة مشاعل عبد العزيز المهاجري، الأستاذة في جامعة الكويت، التي أضاءت من خلال مقدّمتها وشروحاتها للوقائع والأسماء والأحداث بعداً عميقاً أكاديمياً للنسخة العربية من الكتاب، ضاعفت الاستفادة منه للقرّاء العرب.
هذا الكتاب يشرح بشكل غير مباشر الأزمة التي يجد فيها كلّ إنسان وكلّ بلد نفسه فيها في هذه الحقبة من التاريخ، ويصل القارئ إلى الاستنتاج الأكيد أنّه كما حصلت الثورات ضدّ الفاشية والنازية والاستعمار، ولم تكن في حينها ترفاً على الإطلاق، فإنّ المقاومة لهذا النوع من النظم الذي يستهلك ثروات البلدان وحياة البشر، ويدخل منظومة قيمهم الحضارية المتوازنة في آلة التآكل ليس ترفاً أيضاً على الإطلاق، بل هو ضرورة وجودية لتحرير الإنسان قبل الأرض من ربقة منظومة خانقة لم يكن له يد في صنعها.
وبطريقة ما وبسبب مجموعة صغيرة من المستفيدين تمكّنت هذه المنظومة من الإطباق على ضميره وروحه ووقته ووجدانه، وحوّلته إلى آلة يمكن إدارتها عن بعد دون أن يعرف بدقّة ماذا حلّ به، ناهيك عن القدرة على التأمّل والتفكير في الإفلات من هذا القدر الذي دخل على حين غفلة إلى كلّ مناحي حياته فغيّرها واهماً إياه أنّه التغيير نحو الأفضل، وواعداً إياه بالمستقبل المشرق والإنجازات الخلّابة، والتي تبقى سراباً يراه عن بعد، ولكن ما إن يصل إليه إلى أن يكتشف أنّه مجرّد سراب.
ولا يتوقّف الكتاب عند المناحي المادّية والاقتصادية فقط، ولكنه يتناول الحضارة والثقافة والتعليم، ويفنّد الأمثلة المرعبة والتي تُري أنه حتى الجامعات والبحث العلمي والتعليم أصبحوا رهينة لأصحاب المال والمتبرّعين، والذين يديرون عملية الأبحاث في الاتجاه الذي يريدون والذي يخدم التراكم الأكبر لثرواتهم ولنفوذهم وقوّتهم وسيطرتهم على مفاتيح الحياة والتطوّر بما يخدم هذه الفئة القليلة، ويضمن عبودية واستغلال جهود وعقول بقية البشر لصالح هذه الفئة القليلة والتي تعمل دائماً وفي كلّ مجال على ضمان استمراريتها وتراكم ثرواتها.
تصبح قراءة هذا الكتاب ذات مغزى أعمق وفائدة أكبر، حين نقرأ صفحاته ونفكّر في الوقت ذاته بما يجري سياسياً في عالم اليوم وبالتحديد بعد استلام إدارة بايدن في الولايات المتحدة، إذ إنّ جهد الإدارة الجديدة الأكبر ينصبّ على تمتين أواصر الناتو، وتوسيع الناتو إن أمكن ليصبح حلفاً عالمياً، ولينقذ هذا النظام الرأسمالي من خطر صعود الصين وروسيا والهند ودول البريكس وأيّ منظومة تتحدّى هذا النظام الرأسمالي القائم على نهب ثروات شعوب الأرض لصالح فئة قليلة من البشر.
من هنا نفهم التهديد الكبير الذي يستشعره حكّام الولايات المتحدة، ومعهم زملاؤهم في الناتو من صعود الصين، ومن تحالف الصين مع روسيا وإيران، وخوفهم من طريق الحرير وما سيؤدي إليه تنفيذ هذا الطريق، لأنّ هذا التحالف لا يحقّق ازدهاراً اقتصادياً فقط لهذه البلدان والبلدان المتعاونة معها، وإنما يقدّم منظومة تفكير جديدة بنيت على أخلاقيات مختلفة، ونظرة تركّز أولاً وأخيراً على محاربة الفقر وتوفير راحة ورفاهية الإنسان.
فها هي الصين قد قضت على الفقر نهائياً في بلادها، وتعمل من أجل تحقيق الرفاهية لشعبها ولكلّ شعوب الأرض إن أمكن، وتطرح صيغاً للتعاون في طريق حزام واحد هدفه الأساسي هو الإنسان وارتقاء الإنسان وتخليصه من اللهاث وضمان العيش الكريم والكرامة له، كما يستشعر القائمون على هذا النظام التهديد من أيّ مفكر أو سياسيّ أو مجاهد يمتلك رؤية مناقضة لرؤيتهم فيعملون على محاربته أو تصفيته، مثل تشي غيفارا، إلى غسان كنفاني، إلى ناجي العلي، إلى الشهيد عماد مغنية، وقاسم سليماني، وآلاف الشهداء الذين اغتالتهم يد الغدر من فلسطين إلى أميركا اللاتينية لأنهم يمثّلون تحدّياً لجوهر فكرة القيمة المادية للنظام الرأسمالي، ويدعون إلى الإيمان بالمبادئ والالتزام بمصلحة وكرامة الإنسان قبل كلّ شيء.
هل أصبح الفرق واضحاً الآن بين نظام جوهره الأساسي هو تحويل المال من وسيلة إلى غاية، وإثراء عدد محدود من البشر فوق كلّ حدود منطقية يمكن أن يطمح إليها الإنسان في حياة قصيرة ومحدودة، وبين نظم حضارية قديمة حديثة تعتبر الإنسان هو جوهر الحياة ومبتغاها، وتعتبر أنّ كلّ الأنشطة المخطّط لها يجب أن تصبّ في صالح الإنسان وعزّته وكرامته وعيشه الآمن المستقرّ؟
هل أصبح واضحاً الآن لماذا نعاني نحن الشعوب المستضعفة من ويلات الحروب ونهب الثروات التي قسمها الله لنا وعلى أرضنا؟ لأنّ وحشاً قابعاً هناك عبر الأطلسيّ والمتوسط في كلّ التفاصيل لا يرانا كبشر، بل يرى النفط والذهب والقمح والمعادن وكلّ ما يمكن أن يشكّل مصدراً لثرواته حتى وإن كلّف ذلك خراب البيئة والطبيعة وقتل الملايين من أطفالنا ونسائنا وتدمير بلداننا وحضاراتنا.
“نظام التفاهة” هو الذي أوصل البشرية إلى هذا المستوى من الحروب والإرهاب والحصار والعقوبات والفقر والجوع، والحاجة اليوم ماسّة جداً إلى نظام بديل وإنسانيّ.
قد يكون تحرّك الصين وروسيا وإيران وسورية ودول أخرى في الأمم المتحدة لإصلاح أنظمتها، خطوة أولى على طريق الألف ميل. لكنّ الأكيد هو أنّ مقاومة المال الجذر الأساسي لنظام التفاهة، ومقاومة هذا النظام برمّته هي ضرورة حيوية لحياة وكرامة وسعادة البشرية جمعاء.
إنها حرب ضروس بين إيديولوجية المادة والمال من جهة وبين إنسانية الإنسان وحريته وكرامته من جهة أخرى، ولا شكّ أنّ الخيار واضح، ولكن فهم جوهر هذه الحرب وعمقها واتساعها يستدعي التصدّي من خلال التحالف والتعاون ووضع الآليات والخطط التي ترتقي إلى صياغة عالم جديد جوهره كرامة الإنسان في كلّ مكان.