موقع مصرنا الإخباري:
في العاشر من آذار/ مارس 2014 انطلق موكب يضم عشرات المركبات من أمام مستشفى نابلس التخصصي، احتفالاً بولادة “أمير”، الطفل البكر للأسير أشرف الصفدي (50 عاما)، من قرية عوريف جنوب نابلس.
اعتقل الصفدي عام 2002، وحكم بالسجن 21 عاما، وكان قد مضى أسبوعان فقط على زواجه عند اعتقاله، وأصرت زوجته فتحية الصفدي على الاستمرار معه، وبعد 12 عاماً من الاعتقال نجحا بإنجاب طفلهما الأول بعد تهريب نطفة من السجن.
“أمير” كان الطفل الثالث عشر من أطفال النطف المهربة من سجون الاحتلال، واليوم أصبحوا 102، أولهم الطفل مهند عام 2012، نجل الأسير عمار الزبن من مدينة نابلس، والمحكوم 27 مؤبداً، و25 عاماً.
العملية معقدة، انطلقت فكرتها عام 2003، عندما أدركت الحركة الأسيرة بأن من حق الأسير المتزوج والمحكوم لسنوات طويلة أن يجد أبناءه بانتظاره عندما يفرج عنه، خاصة للزوجات اللواتي أصررن على الاستمرار مع أزواجهن رغم أحكامهم العالية.
مدير مركز “رزان” لعلاج العقم وأطفال الأنابيب الدكتور سالم أبو خيزران، الذي يعتبر أحد داعمي هذه الفكرة، يقول: إنها كانت بالأساس فكرة للحفاظ على الحياة الزوجية للأسير، إضافة إلى أنه من المعروف أن النساء لديهن سن تقل بعدها إمكانية الانجاب.
ويضيف: “علميا كان يمكننا تحقيق ذلك، لأن الحيوانات المنوية يمكنها أن تعيش لساعات طويلة إذا حفظت بطريقة جيدة، ويمكن أن يصل بعضها حيا وهذا ما نحتاجه، وبالتالي يمكننا تجميدها واستصلاحها”.
لم تخلق هذه القضية بشكل عبثي، بل بأسس دينية واجتماعية ووطنية وعلمية، وتمر هذه العملية بعدة مراحل، ولا تحدث في ليلة وضحاها.
الباحثة عبير الخطيب التي حاز بحثها حول النطف المهربة على أفضل بحث علمي على مستوى الوطن العربي عام 2019، تقول إنه خلال مقابلاتها لإعداد بحثها اكتشفت أن معظم زوجات الأسرى هن اللواتي طلبن الزراعة، حتى يأخذن حقهن بالأمومة، خاصة أن معظم الأسرى الذين نجحوا في تهريب النطف، كانوا قد اعتقلوا بعد مرور أشهر قليلة على زواجهم، إضافة إلى أن أسرى المؤبدات لقفوا هذه الفكرة، ومضوا فيها مع زوجاتهم.
لكن كيف تتم العملية، توضح الخطيب، في البداية يشترط أن يأخذ الأسير موافقة زوجته وعائلته وعائلة زوجته، واذا كانت الفكرة من زوجته، يجب عليها الحصول على موافقة زوجها وعائلتها وعائلة زوجها.
وفي المرحلة الثانية، تضيف الخطيب، يبدأ الأسير بتحضير نفسه، وتحضير من سيحمل النطفة، حيث أنه في تجارب كثيرة تخرج النطفة، ولكنها تحفظ بطريقة خاطئة، وتصل إلى المركز الطبي تالفة، ولكن مع تكرار التجارب، تمكن الأسرى من ابتكار طرق تحفظ الحيوانات المنوية لساعات طويلة قد تصل إلى 20 ساعة.
وتابعت الخطيب: “يبلغ الأسير مسؤول حركته في السجن عزمه تهريب نطفة، وعندما تتهيأ الأمور يستخرج الأسير “النطفة” ويكون اثنان من الأسرى شاهديْن عند باب الحمام، إضافة إلى أسيرين آخرين، ليكون العدد أربعة شهود مجتمعين، وعند خروجه يبلغهم بأنه سيخرج الحيوان المنوي من خلال الحامل “كذا”.
يحدد الأسير عادة موعد إخراج النطفة في يوم الزيارة الوجاهية التي يسمح فيها للأسير بلقاء أحد أفراد عائلته دون حواجز.
وبمجرد تسلم الشخص الذي يكون من أقارب الأسير من الدرجة الأولى، فإن أول ما يقوم به عند مغادرة الزيارة، والوصول إلى مكان إقامته، تسليم النطفة لعائلتي الأسير وزوجته، الذين يكونون بالانتظار، وعادة ما يكون والد الأسير ووالد زوجته بالانتظار، واذا كان أحدهم متوفى أو يتعذر حضوره، فإن من يحضر بدلا عنه قريب من الدرجة الأولى.
وتضيف: بعد ذلك يتم نقل النطفة إلى المركز الطبي من أجل التأكد من سلامتها، ثم تتم معالجتها وتجميدها وحفظها، فيما تكون زوجة الأسير مهيأة لعملية الزراعة، كما يتم التوقيع على أن هذه النطفة قادمة من الأسير “الفلاني”.
وتتابع الخطيب: “عندما تخضع زوجة الأسير لعملية الزراعة، فإنها تعلن ذلك عبر مجتمعها، ففي غزة يتم الإعلان عن ذلك بعد صلاة العشاء حيث يلتقي والد الأسير ووالد زوجته عند الانتهاء من الصلاة، ويعلنان أمام المصلين عن أن زوجة الأسير الفلاني زرعت نطفة مهربة من زوجها الأسير، ثم يتم الإعلان عبر وسائل الإعلام المختلفة، أما في الضفة فاعتمدت الكثير من القرى المناداة في مكبرات المساجد للإعلان عن ذلك، إضافة إلى الإعلان عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة”.
لكن في القدس، يكون الإعلان بشكل منغلق ويقتصر على زوجة الأسير وعائلة الأسير، بسبب العقوبات التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق أسرى القدس، الذين يحرمهم من تسجيل أطفالهم، ومن الحصول على أي ورقة تثبت أنه موجود على قيد الحياة، حتى لو توفاه الله لا يعطى تصريحا بالدفن، ولا يدخل في الإحصاء المركزي الإسرائيلي، ولا بالتأمين الصحي.
غير أن الأمر لا يقتصر على أطفال النطف المهربة بالنسبة لأسرى القدس، حيث إن أي أسير مقدسي يدخل السجن وتكون زوجته حاملا قبل اعتقاله، يتم معاملة طفله كمعاملة الطفل الذي يأتي من خلال النطف المهربة.
مؤخرا، تمكن أهالي القدس من انتزاع قرار من المحاكم الإسرائيلية بتثبيت بعض الأطفال، من خلال إجراء فحص الـDNA.
وبمجرد ولادة الطفل من النطف المهربة، فإن سلطات الاحتلال تفرض عقوبات مشددة بحق والده الأسير، ومنها منعه من الزيارة، أو عزل الأسير انفرادياً، وحرمانه من “الكنتينا”، والاستيلاء على أغراضه الشخصية، غير أن الأسرى يستقبلون هذا الخبر بالتهليل والتكبير، ويوزعون الحلوى على كافة أقسام السجن.
وباركت دار الافتاء الفلسطينية عملية تهريب النطف وأجازتها ودعمتها وشجعت على إجرائها، ومنذ عام 2003 وفق الدكتور أبو خيزران فإن القيادة الفلسطينية وكافة قيادات الفصائل دعموا هذه الفكرة.
وصل “مركز رزان” لعلاج العقم وأطفال الأنابيب أول عينية من النطف المهربة عام 2006 من دلال الزبن زوجة الأسير عمار الزبن، فلم تجر الزراعة إلا عام 2012 بعد ضمان الحصول على الاحتضان الشعبي لهذه الفكرة، وكان شهر آب/ أغسطس عام 2012 الولادة الأولى للطفل مهند.
وفي الشهر ذاته من العام 2012، علمت ليديا زوجة الأسير عبد الكريم الريماوي من بلدة بيت ريما شمال غرب رام الله بولادة مهند، فزوجها الذي كان قد مضى 11 عاماً على اعتقاله تشجع للفكرة عندما عرضتها عليه، وفي زيارتها اللاحقة تمكنت من الحصول على النطفة من زوجها.
تقول ليديا: “قبل أن أتمكن من أخذ النطفة من عبد الكريم، كنت قد هيأت نفسي صحياً للزراعة، وتعهد المركز الطبي بتحمل تكاليف العملية”.
وتتابع: “أبلغنا شيخ البلدة بخطوتنا، وأعلن عن ذلك في خطبة الجمعة، وبعدها بدأت بأخذ الإبر والأدوية اللازمة لزراعة الأجنة”.
تمكنت ليديا من الوصول إلى المركز الطبي بعد نحو 10 ساعات من زياراتها لزوجها، وكانت النطفة موضوعة بمغلف نايلون محكم الإغلاق، وعند وصولها إلى أقرب منطقة فلسطينية بعد اجتيازها حواجز الاحتلال، اتصلت بعائلة زوجها وبعائلتها، ليكونوا شهودا على ذلك.
وضعت ليديا طفلها مجد في الواحد والثلاثين من شهر تموز/ يوليو عام 2013 ليكون الطفل الثاني من أطفال النطف المهربة، فيما حاولت أن تزرع ثلاث مرات أخرى بعد ولادة مجد، لكنها لم تنجح.
وعندما بلغ مجد ثلاثة أسابيع حاولت ليديا أن تدخله إلى السجن لزيارة والده، إلا أن الاحتلال منعها من ذلك، وأبلغها بأنه يمكنها أن تدخل وحدها، وتترك نجلها الرضيع في الخارج، لكنها رفضت وعادت دون أن تزور زوجها.
انتزع مجد قرارا بزيارة والده بعد مرافعة عن طريقة محامية، وفرض الاحتلال مقابل السماح لمجد بالزيارة بدفع غرامة بقيمة 5 آلاف شيقل، وحرمان والدته من الزيارة لمدة عام وثلاثة أشهر.
المصدر: WAFA