المحور والتحالف بقلم توفيق الناصري

موقع مصرنا الإخباري:

لقد انكشفت خدع الغرب السياسية والأخلاقية أمام أولئك الذين حاولوا خداعهم على مدى قرون بشعاراتهم “الحرية” و”الديمقراطية”.

أقرأ حاليًا كتابًا صدر مؤخرًا بعنوان “الحب والولاء والخداع” والذي نشره بيرغهان في أكسفورد ونيويورك. ورغم أن موضوع الكتاب يدور حول علاقات شخصية غير تقليدية، إلا أنه غني بالرؤى التاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجية والسياسية. وذلك لأن الشخصيات الرئيسية كانت من الرواد الذين أسسوا الأنثروبولوجيا في جامعة لندن وقاموا بمهام بحثية وأنثروبولوجية في الصين وماليزيا والهند وبورما قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية.

وقد ضمت هذه البعثات أمهر وأقدر الباحثين الذين درسوا هذه المجتمعات من حيث الأخلاق والدين والتاريخ، وتعمقوا في الاختلافات العشائرية والجنسانية، وتوصلوا إلى الأساليب المثلى للتعامل مع هذه المجموعات البشرية. عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، كانت الأوراق البحثية ونتائج الرحلات الصعبة التي امتدت لعدة أشهر أو سنوات، من أغلى وأهم ما تم الحفاظ عليه من الغرق والضياع والزوال. ومنذ ذلك الحين، أصبح التبادل بين الولايات المتحدة وبريطانيا في مجال العلوم والمعلومات والأبحاث مشابهًا جدًا للتبادل بين الجامعات ومواطني نفس البلد.

وقد تعزز هذا الإرث بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح هذا الإرث الفكري والمستشرق الذي يدقق في كل المجتمعات الأخرى بمنظور متعالي، إرثا غربيا استثنائيا دون أدنى شك. لقد أصبحت المجتمعات الشرقية والجنوبية محل بحث بهدف إحكام السيطرة عليها ونهب ثرواتها وإبقائها في حالة من التخلف لتسهيل استغلالها. وعندما احتلت اليابان بورما، عاد بعض هؤلاء الباحثين إلى بورما والهند وماليزيا. وكانت مهمتهم المعلنة هي تجنيد جواسيس من هذه المجتمعات لصالح المملكة المتحدة، ومقاومة اليابانيين، وضمان استمرار قبضة بريطانيا الغربية على هذه المناطق.

واليوم، وبعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان، نواجه نفس الاستراتيجية الغربية في فلسطين والعالم العربي بشكل عام، وكذلك في آسيا وأفريقيا. تركز هذه الاستراتيجية على دراسة وفهم مجتمعاتنا وتركيباتها العرقية والدينية من أجل إيجاد أسهل الطرق لاختراقها وتجنيد الجواسيس من داخل المستضعفين لخدمة استمرار الهيمنة الغربية وقمع الشعوب ونهب ثرواتها ومنع الدول من الهيمنة الغربية. تحقيق النمو والازدهار المستمرين من خلال إثارة الحروب التي تهدف في المقام الأول إلى منع مجتمعاتنا من التطور أو تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحقيقي.

فإلى جانب الحروب المفتعلة ضد العرب وشعوب آسيا وأفريقيا، اعتمد الغرب بشكل أساسي على زرع الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، ونفس الدين، ونفس الطائفة، ونفس المجتمع. لقد تلاعبوا بالفروق الدينية والطائفية والعرقية والمذهبية بطريقة لم يسبق لها مثيل. ومن ثم، فإن الخصم الأساسي للأجندات الغربية هو التعايش والتعاون والتضامن الحقيقي بين أفراد المجتمع والمجتمعات التي تتقاسم عناصر مشتركة وتسعى إلى تحقيق أهداف مشتركة. ولذلك، قاموا بتقسيم العالم العربي إلى 22 دولة، ورسموا أفريقيا حسب الحدود الاستعمارية. ولهذا تجدهم يثيرون المشاعر الانفصالية في يوغوسلافيا وإيران وأوكرانيا وفي كل مكان آخر.

وفي هذا السياق المعرفي، من المناسب الإشارة إلى مقال نشرته مجلة فورين أفيرز بتاريخ 17 كانون الثاني/يناير 2024 بعنوان “كيف أحيت الحرب في غزة محور المقاومة”، بغض النظر عن الغموض في المصطلحات المستخدمة في التقرير، والذي يوحي أن أحداث 7 أكتوبر كانت شاهدة على القتل والاختطاف، في حين أن كافة جرائم الحرب الصهيونية المتمثلة في الإبادة الجماعية ضد المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء في غزة وفلسطين عامة، يشار إليها بصيغة المبني للمجهول. ويذكر تدمير وقصف المستشفيات والمدارس والمنازل والجامعات ودور العبادة دون تحديد هوية الفاعل. لكن رغم كل هذا الانتهاك الغربي المتعمد للغة والمصطلحات، وتضييع الحقائق، ركز المقال على خطورة فكرة التضامن بين إيران وسوريا والمقاومة في فلسطين وحزب الله واليمن، مؤكداً أن التنسيق بين هذه الجهات يشكل خطراً. تهديد خطير للغاية للغرب و”إسرائيل”. وهو يحذر “إسرائيل” والغرب من واقع جديد قد يتعين عليهم مواجهته.

ويعرب المقال عن الدهشة والرهبة من سيطرة المقاومة على وسائل التواصل الاجتماعي واجتهادها في فضح أفعالها في إطار الشرعية الدولية، وهو الأمر الذي يتردد صداه بشكل مقنع في المجتمعات الأخرى حتى في المجتمعات الغربية. يقترح المقال وأن ذلك يشكل تحدياً للغرب، ويثير غضب المجتمعات الداعمة له، ويعزز نفوذ محور المقاومة. ومن هنا دعا الكاتب إلى وقف الحرب في غزة والتوصل إلى تسوية نهائية قبل أن يفقد الغرب نفوذه ومكانته في الشرق الأوسط. ويعترف المقال كذلك بأن “الولايات المتحدة لا تستطيع تفكيك المحور بسهولة ولا هزيمة الأفكار التي ولدته. والسبيل الوحيد لإبعاد الريح عن أشرعة المحور هو إنهاء الحرب في غزة والتفاوض على تسوية حقيقية وعادلة للقضية الإسرائيلية الفلسطينية. وما لم يتم ذلك، فإن المحور سيكون واقعًا إقليميًا سيتعين على الولايات المتحدة مواجهته لسنوات عديدة قادمة.

ولم يذكر المقال أن التحالف الغربي، الشريك في حرب الإبادة الجماعية على فلسطين منذ مجازر دير ياسين الصهيونية وكل ما فيها من قتل وإبادة وتطهير عرقي واحتقار للقانون الدولي، قد غير الواقع إلى الأبد، ولا سيتمكن المرء من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء مرة أخرى. لقد انكشفت خدع الغرب السياسية والأخلاقية أمام أولئك الذين حاولوا خداعهم على مدى قرون بشعاراتهم “الحرية” و”الديمقراطية”. والآن أصبح من الواضح أن الغرب لا يهتم كثيراً بالأخلاق، أو بحياة البشر الأبرياء، أو بالطفولة، وأنه يدوس على كل الأعراف والقوانين، بما في ذلك قوانين الحرب ومعاملة الأسرى. وكل ذلك لدعم قاعدتها الاستعمارية في العالم العربي. ولهذا السبب ظل الغرب بأكمله صامتا مثل القبر إزاء أسوأ الفظائع التي شهدتها البشرية على الإطلاق. وانكشفت الطبيعة الاستعمارية والوحشية للتحالف الغربي، حيث دعم إرهاب كيان صهيوني عنصري لا تختلف جرائمه عن جرائم داعش في سوريا والعراق. لذلك، لا يمكن تجميد وعي الناس، ولا يمكن إعادته إلى ما قبل حرب غزة.

لا يمكن الاستهانة بتداعيات ما حدث في فلسطين على المنطقة والعالم أجمع، وستظل يتردد صداها لعقود من الزمن على نحو لم يتخيله الغرب قط. لقد أعلنت الحرب الغاشمة على فلسطين سقوط الغرب المدوي في ضمائر كافة شعوب الأرض، وسيحصد الغرب نتائج ذلك لعقود قادمة.

وأنا أتفق تماما مع ما ذكره الباحث شولتو بيرنز في مقالته بصحيفة ذا ناشيونال بتاريخ 17 يناير 2024 بعنوان “قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل كشفت انشقاقات ما بعد الاستعمار في جميع أنحاء العالم”. وقال بيرنز: «إننا نشهد تحولاً زلزالياً. ويبدو أن قادة الدول المستعمرة السابقة لا يدركون حجم النوايا الحسنة التي يهدرونها، أو كيف تؤدي أفعالهم إلى تصلب المواقف ضدهم، في جميع أنحاء العالم. وكان لافتاً أن ناميبيا ساهمت في الاحتجاج على حضور ألمانيا جلسة محكمة العدل الدولية إلى جانب الوفد الصهيوني. أعلن الرئيس الناميبي هيج جينجوب بغضب أن “ألمانيا، التي ارتكبت أول إبادة جماعية في القرن العشرين في الفترة من 1904 إلى 1908، والتي لقي فيها عشرات الآلاف من الناميبيين الأبرياء حتفهم في ظروف لاإنسانية ووحشية، لا يمكنها التعبير أخلاقيا عن التزامها باتفاقية الأمم المتحدة”. ضد الإبادة الجماعية وليس له الحق في الجلوس في هذا المكان”.

لقد بذل الغرب كافة جهوده السياسية والإعلامية لدعم جرائم الإبادة الجماعية البشعة التي ارتكبها الكيان الصهيوني منذ اليوم الأول للعدوان على غزة في محاولة منه لاستعراض قوته واستعادة مكانته العالمية، إلا أن الطاولة انقلبت، وسيسجل التاريخ العدوان على فلسطين والإبادة الجماعية الشنيعة للشعب الفلسطيني بداية النهاية للاستعمار الغربي بكل أكاذيبه ونفاقه وعنصريته ونهبه بحق البشرية جمعاء. لقد انطلق القطار من محطة غزة، ولن تستطيع تحالفاتهم إيقافه بعد الآن.

سوريا
قطاع غزة
فلسطين المحتلة
عملية طوفان الأقصى
فلسطين
العراق
التحالف الغربي
إسرائيل
الاحتلال الإسرائيلي
القوى الغربية
غزة
محكمة العدل الدولية
محور المقاومة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر العناوين

عناوين أخرى