قال تقرير لموقع “ميدل إيست آي” البريطاني، إن نقص العملة الأجنبية والمتطلبات البنكية المتشددة لتمويل الواردات يجبر كثيراً من الشركات الصناعية المصرية على ممارسة التهريب وغير ذلك من النشاطات التجارية غير القانونية حتى تتمكن من الحفاظ على وجودها.
وتحدث الموقع إلى صانعين ومحللين، وبالنظر إلى تفشي عمليات التصدير الوهمية في ما يبدو، فلا يستبعد أن تكون الأرقام التجارية الرسمية في مصر مضخمة ومبالغاً فيها.
وكان العام الماضي شديداً على الشركات المصرية التي تعتمد على استيراد المواد الخام والآليات من أجل تصنيع السلع.
وبحسب التقرير الذي عمل عليه بول كوتشرانه، فإن قيمة العملة المحلية انخفضت ثلاث مرات مقابل الدولار منذ شهر آذار/ مارس ، ففقدت نصف قيمتها، بينما ارتفع معدل التضخم بشكل حاد وصولاً إلى 22 بالمائة في شهر كانون الأول/ ديسمبر.
وفي تصريح للموقع، قال أحد صانعي الملابس والمنسوجات في القاهرة، يطلق على نفسه اسم جمال – وهو اسم مستعار: “بفعل التضخم وانحطاط قيمة العملة، تراجعت قدراتنا الشرائية بنسبة تزيد عبى الخمسين بالمائة مقارنة بما كانت عليه في مطلع العام الماضي.”.
وأضاف أن “من الصعب والمكلف استيراد المواد الأولية، ويكاد يكون مستحيلاً استيراد المعدات والآليات، حتى لو توفر لديك المال”.
وبدأت السماء تسود بالنسبة للصناع في فبراير الماضي عندما غزت روسيا أوكرانيا، ما رفع أسعار الطاقة، وتسبب في تأخير في سلسلة التوريد، وأوجد حالة من عدم اليقين في السوق. وسحب المستثمرون الأجانب من سوق الدين المصري ما يقرب من 22 مليار دولار، بحسب التقرير.
وفي شهر آذار/ مارس الماضي، خفضت القاهرة قيمة الجنيه المصري استجابة لمتطلبات صندوق النقد الدولي، وذلك بعد أن سعت مصر للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، وهو القرض الرابع الذي تتقدم للحصول عليه من الدائن خلال ستة أعوام، وذلك من أجل الوفاء بالتزامات دينها المتنامي. ونجم عن ذلك الإجراء ارتفاع في تكلفة الاستيراد بالنسبة للشركات التجارية، وبشكل خاص بالنسبة للمؤسسات التي لا تكسب 50 بالمائة أو أكثر من إيراداتها بالعملات الأجنبية عبر التصدير.
في شهر أيار/ مايو، فرضت النظم المحلية عبئاً إضافياً عندما طالب البنك المركزي المصري الشركات التجارية باستخدام العملة الأجنبية لاستصدار كتب الاعتماد – وهي وثائق يصدرها البنك تضمن الدفع حال تسليم البضائع أو الخدمات – بدلاً من التعامل مباشرة مع المزودين الدوليين.
وفي نفس الوقت، قيدت الحكومة بشكل متزايد كميات العملة الأجنبية التي يسمح لمكاتب تبديل العملة بصرفها.
وتابع التقرير بأنه بدأت تجف ودائع الدولار في البنوك مع تحويل أصحاب الحسابات أموالهم إلى الجنيه المصري للاستفادة من عرض البنوك المحلية توفير شهادات توفير محددة المدة بفوائد تتجاوز الـ18 بالمائة، وقد تصل إلى 25 بالمائة بدءاً من كانون الثاني/ يناير.
ونقل الموقع عن مسؤول مصري مشترطاً عدم نسبة الكلام إليه قوله: “كثير من الناس بدلوا إيداعاتهم بالدولار الأمريكي إلى الجنيه المصري ثم اشتروا الشهادات، وهذا شفط العملة الأجنبية من النظام البنكي المحلي”.
لا خيار
كل هذا ترك الصانعين، الذين كانوا أكثر اعتماداً على المبيعات للسوق المحلية، بلا دولارات وغير قادرين على الحصول على مواد جديدة. وهذا كان له أثر كبير على قطاع صناعة الملابس والمنسوجات المصري، والذي يعمل فيها ما يقرب من 1.5 مليون شخص.
وفي تصريح للمطبوعة المتخصصة في التجارة، واسمها شبكة المعلومات حول قطاع المنسوجات، قال أحد الشخصيات البارزة في القطاع في شهر كانون الثاني/ يناير: “تؤثر مشكلة صرف العملة الأجنبية بشكل دراماتيكي على السوق. فكثير من الشركات المحلية التي تبيع منتجاتها محلياً لا تعمل بأكثر من 50 بالمائة من قدرتها بسبب نقص العملة وصعوبة الحصول على المواد الخام”.
ومن أجل الحفاظ على بقائهم، لم يجد الصانعون بداً من اللجوء إلى طرق التفافية للحصول على البضائع وعلى العملة الأجنبية.
ويتابع جمال للموقع: “لو أراد الصناع الشراء بشكل قانوني، فسيكون مستحيلاً عليهم جلب البضائع إلى البلد. ولذلك يلجأ المشترون إلى صفحات الفيسبوك لإيجاد بائعي جملة يبيعون حاويات من النسيج. هناك الكثير من التهريب للنسيج وللخيوط المغزولة وغير ذلك من المستلزمات”.
ويتم استخدام أساليب أكثر تعقيداً للحصول على الدولارات وإدخالها إلى حسابات الشركات في البنوك، وذلك أن اللوائح الحكومية تقضي بأن تكون الإيداعات من الصادرات المباشرة.
ويقول جمال: “إذا كان لديك، لنقل، مائة ألف دولار، ولا تستطيع إيداعها في البنك، فلسوف تحتاج إلى تغيير وضع ذلك المال ليصبح إيرادات للصادرات”.
ولإنجاز ذلك يقوم الصانع بتصدير حاوية من البضائع متدنية الجودة إلى صديق يملك شركة تجارية في بلد آخر، مثل دبي. ثم يقوم الصانع المصري بتحويل المبلغ المرغوب في استعادته على شكل دولارات إلى “شريكه في الجريمة”، كما يعبر عن ذلك جمال، عبر صراف في السوق السوداء داخل القاهرة.
ويضيف جمال لـ”ميدل إيست آي”: “بعد إرسال الشحنة والمال، تقوم بإصدار فاتورة ثم يودع شريكك في الجريمة المبلغ في حسابهم ثم يجرون التحويل إلى مصر. وبذلك يتوفر لديك المال الذي تحتاجه من أجل الاستيراد”.
وتقوم الشركات بالفعل بتصدير المنتجات إلى زبائنها الحقيقيين، كما يقول، ولكنها تزيد في قيمة الفاتورة بالاتفاق مع المشتري.
ويضيف: “يتطلب ذلك إرسال كمية ضخمة من المال إلى الزبون لتغطية الفرق في السعر. لا يوجد لدينا خيار سوى القيام بممارسات غير قانونية حتى نضمن البقاء”.
جميع أنواع الألعاب
في دوائر الجريمة المالية، تعرف هذه الممارسة بأنها غسيل أموال من خلال التجارة.
طبقاً لمجموعة العمل المالي، وهي كيان مقره باريس تناط به مهمة وضع المعايير الدولية لمنع غسيل الأموال، فإن غسيل الأموال من خلال التجارة يعرف على النحو الآتي: “إنه عملية إخفاء إيرادات الجريمة ونقل القيمة من خلال اللجوء إلى التعاملات التجارية في محاولة لإضفاء مشروعية على ما هو في الأصل عمل غير مشروع. في الواقع العملي، يمكن تحقيق ذلك من خلال التلاعب بسعر أو كمية أو نوعية البضائع المستوردة أو المصدرة”، بحسب التقرير.
على الرغم من أن الصانعين المصريين لا يستخدمون غسيل الأموال من خلال التجارة لإضفاء مشروعية على إيرادات جريمة ما – فالأموال هي في الحقيقة أموالهم – إلا أنهم يستخدمون طرقاً هدفها تمكينهم من إدخال أموال تعتبر غير مشروعة بموجب القانون المصري إلى المنظومة المالية.
ويقول محلل اقتصادي سياسي مقره القاهرة طلب عدم الكشف عن هويته لـ”ميدل إيست آي”: “كثير من الناس يفعلون ذلك من خلال السوق السوداء. هناك جميع أنواع الألعاب التي تتم ممارستها، والجميع يعلم ذلك”.
ويضيف: “يمكنك أن تدفع للمتعاملين في سوق صرف العملة الأجنبية ما تشاء، ولكن بقيمة أعلى. وهناك حافز مالي كبير للقيام بذلك، وهو أمر يسهل عمله من خلال طرق فاسدة، والكل لديه الاستعداد لفعل ذلك لضمان البقاء في العمل”.
إلا أن التكاليف المالية للوصول إلى الدولارات من خلال هذه الطرق الالتفافية تترك آثاراً ضارة على التجارة.
يقول جمال: “كمية العمل التجاري الذي يمكن أن تنجزه من خلال هذه التحويلات تظل محدودة، وذلك لأنها تستهلك رأسمال عمل كبير جدا”.
ويضيف: “إذا كان لدي رأسمال قدره “س”، فإن عليك أن توسعه 1.5 أو 1.8 مرة لكل تخرجه من البلد ثم تعيده إليها، وتتكبد في ذلك خسارة في البضائع المرسلة، إضافة إلى الخسارة في سعر صرف الجنيه إلى الدولار في السوق السوداء، ثم في تكلفة التحويل”.
ويقول: “كما يجب عليك أن تنتظر إلى أن يتم تصدير البضائع وعمل التحويلات”.
ويقول جمال إن الخيار الآخر الوحيد أمام الشركات التجارية المصرية هو الحصول على قرض من البنك، ولكن لم يعد ذلك مجد بوصول سعر الفائدة إلى 18 أو 20 بالمائة.
ويضيف: “ارتفعت الأسعار بشكل جنوني بعد آخر تخفيض في قيمة الجنيه”. وذلك في إشارة إلى تخفيض الجنيه بنسبة 13 بالمائة ليصل حداً قياسياً بلغ 32.2 جنيه للدولار بعد أن كان في التعامل المفتوح خلال شهر يناير 27.6 جنيه للدولار.
المشكلة الكبرى التي يتم تجاهلها
نجم عن التهريب والتلاعب بالفواتير التجارية تقديم صورة مضللة للأرقام الحقيقية الخاصة بحركة الاستيراد والتصدير في مصر، فحسب تقديرات جمال للموقع، فإن ما يقرب من نصف تجارة الملابس والمنسوجات، كما هو الحال في كثير من القطاعات الأخرى، ضالعة في هذه الممارسات غير المشروعة.
يقول جمال عن ذلك: “عليك أن تأخذ بالحسبان أنه عندما تقول لك الحكومة في الأخبار إنهم زادوا أرقام التصدير بمقدار كذا وكذا، فمن المحتمل أن يكون ذلك بسبب الصادرات الوهمية”.
يتفق المحلل مع ذلك، إذ يقول: “ينجم عن ذلك تشويه لحقيقة الأرقام التجارية مما يفضي إلى بيانات مضللة. والبيانات السيئة هي جزء لا يتجزأ من مشاكل مصر الاقتصادية. تبالغ الحكومة في الأرقام من خلال حملة دعائية كبيرة للإيحاء بأنه أمر إيجابي، ولكن فيما لو تأملت في الحقائق والأرقام، فإن الوضع مزر”.
ويضيف: “لقد انحطت مصر إلى مستوى التسول، وهي الآن عالة تماماً على بلدان الخليج وعلى المال الدولي (للوفاء بالتزاماتها تجاه الدين) وذلك مرجعه الإخفاق التام للنموذج الاقتصادي الذي ينتهجه النظام. لا أحد يُسمح له بقول ذلك. إنها المشكلة الكبرى التي يتم تجاهلها”.
قد تخف وطأة أزمة العملة الأجنبية بعد أن تدفق ما يقرب من مليار دولار إلى مصر بعد اليوم الذي حصل فيه تخفيض العملة في يناير، وفي نفس الوقت بدأت الحكومة في حل مشكلة تراكم البضائع المستوردة في الموانئ.
ولكن، وكما يقول المحلل، لا تكاد الأموال المتدفقة تقترب ولو قليلاً من المستويات المطلوبة.
ويضيف خاتما كلامه للموقع: “كثير من الشركات تعلن إفلاسها، وثمة فرق كبير بين الواقع في الشارع مقابل ما تشاهده عبر التلفزيون المصري، مازال السوق الأسود مزدهراً، مما يثبت أن الوزراء يكذبون وأننا لم نصل بعد إلى القعر. وتبقى المشكلة متمثلة في عدم توفر ما يكفي من الدولارات”.
المصدر: عربي 21