الست سوسن بدر ومسرح المرأة

موقع مصرنا الإخباري:
لولا الفنانة سوسن بدر ما تحسنت علاقتي بالمسرح، لذا بدا لي اختيارها رئيسًا شرفيًا لمهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة، ينعقد في الفترة من 15 إلى 21 سبتمبر المقبل، هو اختيار ذكي، ليس لأن لديها حضور متميز على خشبة المسرح، أو لأنها درست في المعهد العالي للفنون المسرحية، قبل أن تتجه إلى السينما والتليفزيون، لكن الأهم في تقديري أنها نموذج لفنانة مثابرة، طموحة، لم تحبس ذاتها التمثيلية في نمط واحد، أو نوع واحد، بل فرضت لنفسها مكانة مهمة في المشهد الفني المصري والعربي، بعد مسار طويل من التحديات والتفاصيل الحياتية، جاذبيتها الإنسانية التي تنعكس على أدائها التمثيلي، اختبرتها على خشبة المسرح، وقادتها إلى تطويع الكاميرا بما يخدم قامتها الجميلة وهي ترتفع إلى أعلى، بأدائها ولغتها ونبرتها وأناقتها.

من هنا يكون اختيارها ذكيًا، يتناسب مع مهرجان نوعي له فكرة جاذبة، هي في حد ذاتها دعوة إلى التواصل مع المرأة، مهرجان مفتوح على المرأة: أسئلتها وتحدياتها.. إبداعها وعيشها.. واقعها وهواجسها.. رغباتها وتفاصيل مشاركتها في الهم الجماعي.

فالمهرجان الذي اتخذ إيزيس اسمًا له، وتحمل دورته التأسيسية اسم الكاتبة فتحية العسال، لابد وأنه يأخذ بعين الاعتبار أن المرأة ليست عنوانًا للتركيز على الإبداع الأنثوي والتعامل معه بحساسية التصنيف أو إقصاء تاء التأنيث في زاواية منفردة، وإنما لتكريسها كشريك أساسي في العملية الإبداعية، وعلى هذا الأساس يُحسب للمهرجان الذي ترأسه المخرجة والممثلة عبير لطفي، بمعية الكاتبة رشا عبد المنعم (مديرًا) والمخرجة عبير علي (مديرًا)، كل واحدة منهن لها تجربتها السخية سواء في الكتابة أو الإخراج والتمثيل، يُحسب للمهرجان أن اختياره سوسن بدر، ينسجم مع اصطفائه المرأة كموضوع ومنجز فني، وهو ما يفتح أفاقًا للتواصل مع فنانات ومخرجات استطعن أن يحصلن على مساحتهن في المشهدية المسرحية سواء المحلية أو الخارجية، كما يُحسب له أيضًا تخصصه في عروض المسرح المعنية بقضايا المرأة أيا كان صانعها سواء كان رجلًا أو امرأة.

احتفائي بهذه التجربة يأت بدافع شغفي بكل الفعاليات الفنية، طالما أنها تحقق ولو لحظة تنوير في مجتمعنا، لكن لدي إعتراف؛ قد يكون مكروهًا لدى البعض وإنما هو ضروري ولابد منه، لأنه يزيح أي ضيق، ويكشف كيف كان لسوسن بدر دورًا في تبديل شكل علاقتي بالمسرح.
منذ سنوات طويلة كانت علاقتي بالمسرح ميئوس منها؛ لا حل لها، كخبطة على الرأس أدرك جيدًا أنها قادمة ولا أتفادها وأُجهز نفسي للوجع وكلمة “آه”، التصرف الـ”رد فعلي” وأنا أتشبث بمقعدي لمدة ساعتين أو أكثر حتى ينتهي عرض مسرحي، بينما أنظر إلى خشبة المسرح مشدوهة و”مفنجلة” عيوني، كأنني مسلوبة الإرادة لا أفهم لماذا قبلت بهذه الوضعية، حتى حدثت المعجزة وقابلت سوسن بدر في مسرح الهناجر، كانت تقوم ببطولة “طقوس الإشارات والتحولات” (1997) من إخراج حسن الوزير، ولأنه النص الذي كتبه سعد الله ونوس وهو يصارع المرض في سنواته الأخيرة ومنحه إلى طابعه الشكسبيري، لمحاته الفنية اللئيمة التي تغوص في الدواخل المركبة للشخصيات، وتجرأ على مساحات العتمة في مجتمعاتنا مستلهمة من التاريخ ما يجعلنا نعيد القراءة والتأمل، ولأنها سوسن بدر صاحبة العينين الواسعيتين التي تخطف الناظر إليها قبل أن تنطق، فتكاد تخلع القلب من مكانه أو على الأقل تجعله ينبض من جديد، الممثلة التي يندر أن تصادف مثلها؛ فلا يلزمها الوصف والمسمى والولع بالشكل والإطار، لأن الله منحها اختراق الجاذبية والصورة ليهبط فيها الفن ونحظى نحن بالحضور الأخاذ، ذهبت إليها في هذا التوقيت لإجراء حوارًا صحفيًا معها.

حين دخلت غرفتها في المسرح قبل صعودها إلى خشبته؛ سألتني: شفتِ العرض؟ فأجبت بكل صلافة: لا. بس قرأت نص سعد الله ونوس، وبعدين أنا عارفاكِ كممثلة! فالتفتت نحوي وقالت: وأنا مش هعمل الحوار غير لما تشوفي العرض!.. فلم يمكن هناك مفر سوى أن أستعيد وضعية المشاهدة المسرحية دون تعليق، وشاهدت سوسن بدر على المسرح لأول مرة؛ فأصبحت وجهًا لوجه مع الرياح، وأنا التي أعاني أساسًا من خلل في المواجهة وكسل في متابعة ممثلة كل إحساس فيها يتحرش بالجمهور دون مزاح أو رحمة، فتساءلت: ما هذه المصادفة الطائشة التي اصطادتني وجعلتني أركض وأصعد وأنزل وأهمس وأصرخ مع كل حركة منها، ليتحقق العصي في عرض عمدتني فيه سوسن بدر لحب المسرح من مدخل مختلف؛ شرقت وغربت ومن حسن حظي أنني كنت هشة وجاهزة للامتثال لمهارة ممثلة تجتهد، لتكون واحدة من الحلول السماوية في جسد التمثيل لا برق نجمة يفر عابرًا ويزول خلف كواليس الزمن.

لعل هذا ما رآه فيها شادي عبدالسلام حين صدق أن الجنوبية السمراء هي نفرتتيتي أو أميرة فرعونية هاربة من المعبد، حسب توصيفه، فقام بترشيحها لبطولة “إخناتون” الفيلم الذي لم يتحقق ولم يجمعها بعمر الشريف حينذاك، لكن سوسن لم تغوها أسطورة الملكة ومشت طريقها محملة بنبوءة التمثيل وهوى أرضه الخضراء، ومنذ إطلالتها اللامعة في “حبيبي دائمًا” (1980) إخراج حسين كمال، وقبله “أحلام الفتى الطائر” (1978) إخراج محمد فاضل، قالت: أنا هنا. فأصغى الجميع إلى موهبتها، بينما هي أصغت إلى جوهر روحها، تأملها الذي قادها إلى التعدد والتنوع في أدوارها بنضج الدارس لفن التمثيل، إذ مسها بعض من عمق شادي عبدالسلام ومن دراستها المسرحية، والأهم مس الذين أسرف الله عليهم من موهبة وخيال وآدمية.

هذه التركيبة هي سرها في الإبداع وتقمص الشخصيات المتنوعة.. امرأة حرة لا تكسر سكين الغل صلابتها في “سلام يا صاحبي” (1987) إخراج نادر جلال، وجه مفتوح على الطبيعة في “شمس الزناتي” (1991) إخراج سمير سيف، امرأة في المواجهة تحاول أن تنجو من مكائد المجتمع في “الأبواب المغلقة” (2000) إخراج عاطف حتاتة، ولا تمضي وفق رياح هذا المجتمع في “أسرار البنات” (2001) إخراج مجدي أحمد علي، وملدوغة بالأمل الجريح في حلم خرافي يغير من مصيرها لتصعد من الدرجة الثانية إلى القمة في “ديل السمكة” (2003) إخراج سمير سيف.. أم تحاول أن تنتصر لهواجسها في “من نظرة عين” (2004) إخراج إيهاب لمعي، إلى أم عاملة، مستقلة، صاحبة صالون السيدات، ملهوفة على تزويج ابنتها في قص ولصق” (2007) إخراج هالة خليل، وأم دافئة، مأهولة بحكايات أولادها وزوجها ومشاكل الأسرة المصرية ابنة الطبقة المتوسطة في مسلسل “أبو العروسة” (2017) إخراج كمال منصور، وكل هؤلاء غير أم أخرى تنتقم من الغياب بحضور الجسد مع زوج بشع في “حين ميسرة” (2007) إخراج خالد يوسف، امرأة ناضجة تقابل الحياة بثقة وصلابة، تسير بخطى واثقة كما أروى في “دنيا” (2005) إخراج جوسلين صعب، ثم راقصة تخطاها الزمن في “الفرح” (2009) إخراج سامح عبد العزيز، أو تلك المرأة الذي جرها المصير إلى اللعنة لتكون هي وأسرتها كبش فداء لمجتمع البؤس والفقر والخراب في “الشوق” (2011) إخراج خالد الحجر.

ومن يمكن أن ينسى مثلًا أماني في مشهد المواجهة بينها وبين “أحمد”، العريس المستفز (حسين الإمام) في فيلم “إحكي يا شهرزاد” (2009) إخراج يسري نصر الله، حين تقوم وتشعل سيجارتها من رجل على طولة مجاورة، وتعود ليسألها الرجل الذي تقدم لخطبتها: إيه ده يا ماما إنت بتشربي سجاير؟!.. كان يناديها “يا ماما” ولا يذكر اسمها، حسب الطريقة الذكورية السائدة في مجتمعنا، فتنفخ في وجهه: لما نتفق ح ابطلها. ثم تسأله عن المقابل الذي سيقدمه لها بعد أن طالبها بتنازلات عديدة، فلما أجابها:”ح ابقى جوزك”، ولما سألته عما يعنيه، فتمادى في استفزازه:”جوزك يعني جوزك”، فما كان إلا أن تركته بعد أن تصدت له:” إنت راجل أهبل.. أه والله أهبل.. يعني عاوز تاخد فلوسي وتشغلني خدامة وتفرض علي شروطك وشروط أمك وتقول ح تبقى جوزي… يا راجل ياعرة”.. إنها هنا جسدت الشخصية وهي تجيش بقدر هائل من المشاعر.. الممثلة تنبض بحيوية الإنسانة التي اختبرت الحياة وفهمتها، وصدقت ما تؤديه.

سوسن تعيش الحياة حتى الثمالة، حسب التعبير الدارج، بل تبدو هي الحياة ذاتها في تقلباتها، فيظهر ذلك في أدوارها عبر ما يقرب من 400 عمل موزعة بين المسرح والسينما والتليفزيون، وإن تأمل رحلتها يؤكد رسوخها أمام كل التغيرات، وقدرتها على التحرر من إطار الشخصية النمطية، في تجربتها تنويعات كثيرة من الفتاة الحالمة، إلى الواقعية، من السيدة الأرستقراطية إلى بنت البلد والصعيدية، من الأستاذة الجامعية إلى الراقصة، قدمتها كلها بنفس الإجادة وفي كل مرة لابد وأن تشعر أنك أمام إنسانة تعرفها جيدًا، وممثلة ركزت انتباهها وعاشت واقع شخصياتها، فاسترخت وحررت أعصابها وعضلاتها من أي توتر، ثم وقفت على المسرح أو أمام كاميرا السينما والتليفزيون بذاكرة إنفعالية، تستدعي المواقف وتقوم باتصال وجداني عميق مع الجمهور.

بقلم ناهد صلاح

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر العناوين

عناوين أخرى