لم تتح لى فرصة مشاهدة الفيلم السودانى القصير “الست” للمخرجة سوزانا ميرغني، فى أى مهرجان، تابعت أخباره المثيرة وجوائزه العدة، ورغبت فى مشاهدة منجز سينمائى سودانى جديد، انضم إلى مشاريع أخرى أصبحت ذائعة الصيت مؤخرًا، حتى منحتنى مخرجته المثابرة مشاهدة خاصة، عن طريق الناقد السودانى الدؤوب خالد علي، فحظيت بمشاهدة فيلم جيد بدون ادعاء أو تصنع.
حكاية الفيلم تتمحور حول سؤال بسيط: ماذا تفعل فتاة فى الخامسة عشر من عمرها، يرتب لها الجميع الزواج وحياة أخرى وفق مفهومهم واحتياجهم لا احتياجها؟ ماذا تفعل إذا شعرت فجأة، أنها مشدودة بين الماضى والحاضر، بين رغبات أهلها ونزوعها هى نحو أمل آخر؟.
هذا السؤال هو ما يعنى به الفيلم فى سردية بصرية لا تتجاوز العشرين دقيقة، مع ذلك هى الخيط الفاصل بين العيش فى الواقع، وبين الانتباه إليه بوصفه مادة تستحق أن تُروى، هذا ما قدمته سوزانا ببساطة تلتقط نبض الواقع، وإن كانت رؤيتها على أى قدر من الاحتجاج، فإنه احتجاج ناعم فى فيلم يتسم بنَفَسِ هادئ.
من هذه النقطة، ربح الفيلم وهو إنتاج العام 2020 نحو 13 جائزة فى محافل سينمائية دولية مختلفة، وبهذا الربح فإنه ينتصر للمرأة التى يعنى بها الفيلم ويحكى عنها، دون تنميط لعناصر الحكي، فلا خطاب نسوى مباشر ولا سُلطة ذكورية غليظة ولا تعنيف ضد المرأة أو ضغط اجتماعى حاد، بل أنه لم يقدم الفتاة الصغيرة بطلة الفيلم على أنها ذبيحة وضحية بشكل ظاهر ومباشر، وظهرت الجدة كامرأة قوية لها سُلطة كبيرة، والجميع يعمل لحضورها ألف حساب، أما الأم فهى نموذج آخر للمرأة المحركة للحدث، وهذا من ميزات الفيلم الذى لم ينحو نحو الميلودراما، ومن ناحية أخرى فإنه ينتصر كذلك للسينما السودانية التى تحقق حضورًا ملحوظًا فى السنوات الأخيرة وتحرز الجوائز فى المهرجانات العالمية.
فى الفيلم إشارة ذكية إلى خط السكك الحديدية الذى أنشأه الانجليز عند احتلالهم السودان، ثم هدموه وأخذوه معهم عند انسحابهم وتحرير السودان، بل إنهم أخذوا أيضًا شجرة الدوم الصلبة، القوية، وهى قطعة من أرض السودان لا تخص الانجليز ولا يمتلكونها.. الحال ذاتها جرت مع السينما السودانية التى اتخذها الاستعمار الانجليزى كقناة لتمرير أهدافه، منذ فيلم قصير فى العام 1912 يوثق لافتتاح خط السكة الحديد، إلى أفلام ظهرت فى أزمنة بعد الاستعمار، متعثرة بين النقلات السياسية التى مر بها المجتمع السوداني.
ما أقصده هنا يتلخص فى نقطتين، الأولى: أن بين السينما والسياسة رباط وثيق، يمكن رصد أبعاده من زوايا مختلفة، والثانية أن تجربة سوزانا ميرغنى التى اشتملت أفلامًا قصيرة من تأليفها وإخراجها وإنتاجها: “حلم هند” (2014) “كرفان” (2016)، “الست” (2020)، ليست تجربة منعزلة عن السياق، وإنما هى جزء من مشروع السينما السودانية عمومًا، هذا المشروع الذى بدأ يشهد منجزًا مرموقًا ويحصد جوائز كبيرة، من خلال تجارب موازية ولافتة، مثل: “أتحدث عن الأشجار” إخراج صهيب قسم الباري، “ستموت فى العشرين” إخراج أمجد أبو العلاء “أوفسايد خرطوم” إخراج مروة زين، وفيلمى “إيقاعات الانتنوف”، “أكاشا” من إخراج حجوج كوكا. كما أنه هو ذاته امتدادًا للمشروع السينمائى السودانى ورواده الذين أسسوا للأفلام القصيرة سواء وثائقية أو روائية، من أمثال: جاد الله جبارة، نال فيلمه “تاجوج” جوائز فى تسعة مهرجانات دولية وإقليمية، الطيب مهدى الحاصل على ذهبية مهرجان القاهرة للأفلام القصيرة فى العام 1972، سليمان محمد إبراهيم الفائز بذهبية مهرجان موسكو فى العام 1979عن فيلمه “ولكن الأرض تدور”، إبراهيم شداد الذى فاز فيلمه “الجمل” بجائزة النقاد فى مهرجان كان فى العام 1986، كما حصل فيلم “حبل” على ذهبية مهرجان دمشق السينمائى فى العام التالي، ثم أنور هاشم الذي أخرج فيلم “رحلة عيون” بطولة صلاح ابن البادية وسمية الألفي ومحمود المليجي.
“الست” تجربة معاصرة فى السينما السودانية، فبالإضافة إلى أن مخرجته وكاتبته شابة طموحة، فإن الفيلم يتسم بالمنحى الإنسانى اللطيف، وهو ملمح غالب وبارز فى أعمال سوزانا ميرغني، نشعر به مع الصبية نفيسة ذات الخمسة عشر عامًا، فى وجهها ابتسامة وهدوء، يخفى حبها الكامن وإرادتها القوية فى حسم أمرها واختيارها، تعيش نفيسة فى قرية صغيرة تزرع القطن، وحياتها على المحك، لأنها مغرمة بشاب فى القرية، بينما هناك شاب أخر قادم من الدوحة لخطبتها.
فكرة الفيلم تستلهم من البيئة الصورة والكتابة، فيستهل بنوارة القطن، الزهرة الجميلة، ونوارة الفتيات، نفيسة بملامحها الفاتنة مع رفيقاتها فى حقل القطن يغنين: “يا طالع الشجرة/ هات لى معاك بقرة/ تحلب وتسقيني/ بالمعلقة الصيني”، الأغنية الشعبية التى تحمل فى طياتها الخيال اللا معقول أو ما اصطلح عليه فى ستينيات القرن الماضى بأدب أو فن العبث، فليس من المعقول أن يكون فوق الشجرة بقرة مثلًا، لكن نص الأغنية يحمل مدلولًا رمزيًا ومجازًا بليغًا للأحلام المشتهاة، واستخدام المخرجة لهذه الأغنية فى مطلع فيلمها، ليس عبثيًا وإنما تمهيدًا للحدوتة التى تبدأ بابتسامة نفيسة لشاب فى الحقل، ما يشى بشيء ما تفهمه الفتيات الأخريات، فيشرعن فى الغناء، وعندما تمر سيارة نقل صغيرة تقل “نادر” الشاب القادم من الخارج بهداياه لخطبة نفيسة، لا تكف الفتيات عن الغناء:” الليلة الليلة الحنة”…
الموسيقى والغناء متداخلان معًا فى سياق السرد، كأنهما صدى لهؤلاء الفتيات أو أداة نجاة من شقاءهن اليومي، الفتيات يردن متنفسًا، ونفيسة الصبية التى مازالت فى سن المراهقة، تريد منفذًا يخلصها من وطأة الزواج المدبر، لا تريد أن يأخذ الأخرون قرارًا يخص مسار حياتها بالنيابة عنها..
نفيسة صامتة، لم تتفوه بكلمة واحدة، الصمت هنا أقدر على تعبيرٍ أجمل، خصوصاً أن الممثلة تقول بحركة أو ملمح أو وجه أو نبرة ما يفترض بها قوله والبوح به، إنها مشدودة بين الجدة والأم، بخيط كالذى تغزله جدتها من زهرة القطن التى تجلبها نفيسة إليها فى حقيبتها القماشية، الجدة غارقة فى الماضى القديم، سيبقى معها إلى النهاية.. الجدة هى “الست” صاحبة السلطة، وقضية حياتها كما قالت فى حوارها بالفيلم هى طرد الحشرات من قطنها، فى تلميح واضح لعدم رضاها عن العريس القادم من الدوحة، والأم مبهورة بالعريس وتدفع الأب للموافقة عليه، ترتبك الأم فى نطق البلد القادم منه العريس، تقول دبي، يصحح لها العريس: الدوحة، تجيبه:” كلها عماير”.
الجدة تمسك بوجه العريس وتتفحصه جيدًا وتسأله: إنت ابن مين؟ فيخبرها، تقول له أنه يشبه جده وتخبره أن هذا الجد كان “يرطن” مع الانجليز. الرسالة واضحة، الاثنان الجد والحفيد إنسلخا عن مجتمعهما، واحد عمل مع الانجليز والثانى يعيش فى الخارج ويعود بثقافة أخرى لا يعرفها السودانيون. يتحدث بلغة التجارة والعرض والطلب، يأت للزواج بدون أهله لأنهم مشغولون فى مصنع الدوحة، لا يتعرف على نفيسة فى البداية، يظن أنها الخادمة وليست العروس، يحرق بسيجارته نوارة القطن، ويتحدث عن القطن ويصفه بالعتيق “بتاعكم”، ثم يندهش أنهم ما زالوا يتعاملون يدويًا مع زراعة القطن، إنه لا ينتمى لهذه الأرض ولا يعرف قيمتها.
الجدة لا تحبذ هذه الزيجة، لأن مردودها واضح، تريد لحفيدتها أن تكون هى الأخرى “الست” مثلها.. الست التى تزوجت رجلًا يكبرها بكثير، ثم مات، إنها تحتكم إلى العادات والتقاليد وترغب فى عريس لحفيدتها حسبها، حضور الجدة يستدعى نوعًا من الطمأنينة، لكن الفتاة لا تريد الثوابت الشكلية.. الأم والأب اختارا الزيجة السهلة، فى النهاية تخرج نفيسة من حصار البيت والعائلة، تقرر أن تختار حبيبها.. الفيلم ينتصر لاختيار الفتاة وتمردها الناعم، إنها لا تريد العريس الغنى المتعالي، القادم من الخارج ولا تريد زواج التقاليد.
نتف القطن المنثور ينزل على الجميع، الجدة، الفتاة وحبيبها كالثلج فى صورة بصرية مبهرة، ثم تقع صورة الجدة والجد من الجدار، فى إشارة للإفساح للجديد، للخيار الحر.. مشهد النهاية ينجح فى التقاط لحظة ومشاعر، بصريًا وسردًا بأسلوب ينفتح على التفكير والتأمل، بدون ثرثرة، وهو أسلوب انتهجته سوزانا فى أكثر من موقع فى الفيلم، حيث بدا التكثيف الزمنى والدرامى أساسى فى العمل، ثمة تفاصيل هامشية، لكنها زاوية مهمة تصيغ نمط الحياة وتصنع جوهر الحكاية، نراها مثلُا حين تصمم الأم أن تخرج بالعريس الغنى لتمشى به فى الحارة كى يراه الجيران وتخبرهم أنه جاء لخطبة ابنتها، أو حين تتحسس نفيسة قطعة القماش التى جلبها العريس، وأيضاً حين تفتح علبة الشيكولاتة المستوردة وتأخذ واحدة، كذلك حين تتذوق الجدة هذه الشيكولاتة، وقوف نفيسة تتزين أمام المرآة ثم محوها لأحمر الشفاه بقسوة، كل منها مجرد لقطة لم تستغرق مساحة زمنية، لكنها صنعت تأثيرًا، جعلت الفيلم فى قلب الحياة، وهذه نقطة مهمة فى العمل السينمائي.
التجربة مثيرة للاهتمام نقلتها كاميرا هى أقرب إلى عين وروح تتوغل فى نص يحمل ثقلُا إنسانيًا وتأمليًا، بجانب الأداء التمثيلى الكاشف عن فهم الممثلين لرسالة الفيلم، مهاد مرتضي، محمد مجدي، فاطمة فريد، طلعت فريد، مرتضى الطيب، رابحة محمود، السر محجوب، حرم بشير، عبد الله جكنون، جميعهم امتثلوا للبساطة بمهارة المحترفين.
بقلم ناهد صلاح