مراحل عدة مرت بها مصر منذ ثورة 30 يونيو، ربما فرضتها الظروف المتلاحقة منذ اندلاع ما يسمى بـ”الربيع العربى”، وما شابه من تصاعد نبرات متطرفة، لا تقتصر في حقيقة الأمر على المنابر، وإنما امتدت إلى الشاشات والمواقع، التي كرست نفسها لخدمة التيار الذى سيطر على زمام الأمور آنذاك، والذى يتغذى بالفتن، وينمو بانقسام المجتمع، فأصبحت حالة الاستقطاب ممتدة، فصار المعارضة السياسية دربا من الخروج على الدين، بينما دعوات الانفتاح وحقوق المرأة بمثابة “مجاهرة بالمعصية”، ناهيك عن ورقة الطائفية القديمة، التي طالما استخدمتها القوى الظلامية، باعتبارها المنطقة الأكثر هشاشة، التي يمكن أن تنطلق منها الفتن الكبرى، وبالتالي يصبح شعار المرحلة “إما مع الدين أو ضده”.
وهنا كانت مبادرة “الخطاب الدينى المعتدل”، التي انطلقت منذ اليوم الأول من انتصار المصريين في 30 يونيو، والتي اعتمدت نهجا صريحا بدحض الخطاب المتطرف القائم على رفض الأخر، وتوظيف المفاهيم الدينية في غير محلها، ليس فقط من أجل إثارة الفتن، وإنما أيضا لتحقيق غايات أكبر تتجسد في التلاعب بأفكار قطاع كبير من المجتمع، عبر غسل أدمغتهم، ودفعهم نحو الانضمام إلى صفوفهم، مستغلين حالة الجهل المسيطرة على مناطق بعينها، ناهيك عما كان يعانيه المجتمع من فقر وبطالة، دفعت البعض إلى الاستجابة لدعواتهم، إن لم يكن لاقتناعهم بالفكر المتطرف، فربما سعيا وراء حفنة من النقود.
لذا كانت الحاجة ملحة إلى تعديل الخطاب، باعتباره الوسيلة الوحيدة، لتوصيل رسالة الدين السمحة إلى الناس، وخاصة البسطاء منهم، في إطار حرب فكرية، تزامنت مع معركة اقتصادية، تهدف إلى علاج الأزمة الاقتصادية، والتي شكلت بعدا مهما من أبعاد السيطرة الفكرية لجماعات الظلام على قطاع من الناس، وخاصة الشباب، بالإضافة إلى الحرب الأمنية التي استهدفت معاقل الإرهابيين، والتي حققت نجاحا منقطع النظير، في السنوات الماضية، في الوقت الذى تشهد فيه حروبا أخرى في العالم، على جماعات مشابهة، فشلا ذريعا لتحالفات قوى كبرى في القضاء عليهم.
ولكن مع مرور السنوات، ربما تغيرت المعطيات إلى حد كبير، لتتحول أولوية “تعديل الخطاب”، إلى رؤية جديدة، مفادها التوجه نحو البحث، وهو ما تجلى في مداخلة الرئيس عبد الفتاح السيسى التلفزيونية الأخيرة، والتي تمثل إيذانا ببدء مرحلة جديدة، في معركة الفكر، في إطار الجمهورية الثانية، حيث أصبحت الحاجة ملحة للتحول من نهج “التلقين”، والذى توارثته الأجيال، منذ عقود طويلة من الزمن إلى البحث، عبر ما يمكننا تسميته بـ”الإثارة الذهنية” للمواطن، لمراجعة ما يتلقاه من أفكار، ومدى مطابقتها للواقع الحالي، والعصر الذى نعيشه، بعيدا عن الأفكار النمطية، التي يسعى البعض لترسيخها، لتحقيق مصالح ضيقة.
ولعل أسلوب “الإثارة الذهنية” قد حقق نجاحا منقطع النظير في السنوات الماضية، عبر أعمال درامية، بعيدا عن الخطب الدينية المباشرة، والتي نجحت في طرح تساؤلات ربما أثارت جدلا في بعض الأحيان، حول مفهوم الوطنية والدين، ودحض الأفكار التي سعت إلى خلق قدر من التضارب بينهما، وكذلك قبول الأخر، والمواطنة، وهو ما أتى بثماره في حالة من الالتفاف حول الوطن، خاصة مع صعود بعض القضايا، التي ربما لم يكن هناك اهتمام كبير بها في الماضى القريب، على غرار أزمة السفينة العالقة قبل عدة أسابيع، والاحتفاء الكبير بالحفل الباهر بمناسبة افتتاح متحف الحضارة، ناهيك عن القلق الكبير الذى انتاب المواطن العادى إثر قضية سد النهضة، في انعكاس صريح لتنامى الروح الوطنية في الشارع، كثمرة مهمة من ثمار الوعى الذى ارتبط بتلك الحالة.
إلا أن مصر على ما يبدو على موعد مع موقعة جديدة، من معركة الفكر، ستشهد ربما توسعا في مسلسل “الإثارة الذهنية”، لدفع المزيد من المواطنين نحو البحث والمراجعة، للتحقق مما يتم تصديره إليهم من أفكار، وهو الأمر الذى من شأنه تعديل الفكر بأسره، وليس مجرد الخطاب، وهو ما سوف يثمر بكل تأكيد عن رفض مجتمعى لما يطلقه رواد التطرف، سواء على المنابر أو مواقع السوشيال ميديا، بالإضافة إلى استغلال الزخم الناجم عن التنوع الفكرى لإثراء المجتمع، وليس لتحويله إلى ساحة معركة، على غرار ما سعت إليه جماعات الظلام.
بقلم بيشوي رمزي