موقع مصرنا الإخباري:
إن تسلل التطبيع إلى أفريقيا من بوابة الموساد ليس مجرد سيناريو متوقع، فخارطة التغلغل بوساطة “رجال الظل” ممتدة، ولم يقتصر دور الموساد على ترويض تشاد، فالسودان كان حاضراً على أجندته أيضاً.
وصل رئيس تشاد محمد إدريس ديبي إلى كيان الاحتلال في الثاني من شباط/فبراير الجاري، والتقى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو من أجل افتتاح سفارة لبلاده في “تل أبيب”. لم يكن الوصول مفاجئاً، وإن كان توقيته يُعدّ رافعة سياسية بالنسبة إلى نتنياهو، الذي علّق على المشهد في بيان مقتضب قال فيه: “إننا ننظر إلى هذه العلاقات على أنها مهمة للغاية مع دولة كبيرة في قلب أفريقيا، وهذه علاقات نريد تطويرها إلى مستويات جديدة وأعالٍ جديدة، وزيارتك هنا إلى إسرائيل وفتح السفارة هما تعبير عن ذلك”.
العلاقة بين كيان الاحتلال وتشاد لم تكن وليدة اللحظة، فالجولات الدبلوماسية المتبادلة بين تشاد و”إسرائيل” بدأت علناً في 14 تموز/يوليو 2016، عندما قام المدير العام في وزارة الخارجية الإسرائيلية دوري غولد بزيارة تشاد، والتقى حينها الرئيس إدريس ديبي في القصر الرئاسي في مدينة فادا.
وفي 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، وصل رئيس تشاد إدريس ديبي (الأب) -قُتل في 20 نيسان/أبريل 2021- إلى كيان الاحتلال، والتقى نتنياهو في مكتبه في القدس المحتلة. وفي 20 كانون الثاني/يناير 2019، زار نتنياهو تشاد بعد قطيعة دامت نحو نصف قرن، ووصف الزيارة بالتاريخية، معلناً من هناك عودة التطبيع بين “تل أبيب” وأنجمينا.
يبدو أن مسار العلاقة لم يتغيّر بتغيّر المتغيّر القيادي، ففي 8 أيلول/سبتمبر 2020؛ أشرف الموساد على وصول وفد تشادي سرا إلى “تل أبيب” ترأسه عبد الكريم إدريس ديبي، شقيق رئيس تشاد الحالي وذراعه اليمنى، والتقى في القدس المحتلة نتنياهو ووزير الاستخبارات إيلي كوهين، ورئيس مجلس الأمن القومي مئير بن شبات ومسؤولين إسرائيليين آخرين، تمهيداً للتطبيع. وأعلن ديبي (الابن) حينها استعداد بلاده لافتتاح بعثة رسمية في القدس.
وفي 17 أيار/مايو 2022، قام كيان الاحتلال بتعيين أول سفير له في تشاد، وهو السفير الإسرائيلي في السنغال، بن بورغل، الذي قدم أوراق اعتماده للجنرال محمد إدريس ديبي.
دخول تشاد من بوابة الموساد!
كانت المفاجأة في إشادة رئيس تشاد محمد إدريس ديبي بدور “الموساد” في بناء علاقات بين أنجمينا و”تل أبيب”، وقوله عند لقائه في مدينة القدس المحتلة رئيس كيان الاحتلال إسحاق هرتسوغ: “أود أن أثني على الموساد وأجهزة المخابرات التشادية لمساهمتهم الحاسمة كمهندسين قاموا ببناء العلاقات بيننا”، وأثنى الرجل على ما وصفه بجهود الموساد “الرائعة” في التحضير للزيارة.
وكانت تقارير عبرية كشفت بأن رئيس الموساد، ديفيد برنياع، زار تشاد سراً قبل أسبوعين من الزيارة، والتقى الرئيس محمد ديبي.
حضور الموساد في مشهد التطبيع بين أنجمينا و”تل أبيب” لم يقتصر على التحضير للزيارة فقط، فعندما هبط محمد ديبي في مطار بن غوريون، أول من كان في استقباله هو رئيس الموساد ديفيد برنياع؛ الذي توجّه به مباشرة إلى مقر الموساد في جليلوت لحضور اجتماع احتفالي، فكان أول ملمح للزيارة الدخول إلى “تل أبيب” من بوابة الموساد.
وكان الموساد أول جهة رسمية إسرائيلية تُصدر تصريحاً مكتوباً عن الزيارة، جاء فيه: “منذ قرار إعادة العلاقات عام 2019، أدى الموساد دوراً مركزياً في صوغ الاتفاقية وتعزيز العلاقات بين البلدين”.
ويبدو أن استقواء جنرالات تشاد بالخبرات القمعية والأمنية الإسرائيلية سيكون حاضراً، لا سيما بعد التطورات الداخلية الأخيرة التي شهدتها تشاد، وتحديداً في 5 كانون الثاني/يناير 2023، عندما أعلنت حكومة تشاد أن قوات الأمن أحبطت محاولة مجموعة من جنود الجيش زعزعة استقرار البلاد وتقويض النظام الدستوري.
وتمر تشاد بعاصفة سياسية واحتجاجات وتظاهرات تطالب بتنحي الرئيس، ففي 20 تشرين الأول/أكتوبر 2022، قُتل في يوم واحد نحو 50 شخصاً، وصفت الحكومة التظاهرات بأنها عصيان مسلح، الأمر الذي يعيد سيناريو العام 1990 عندما واجه نظام الرئيس إدريس ديبي أكثر من ثورة مسلحة شمال تشاد وشرقها، فدعمته “تل أبيب” بمعدات عسكرية وتكنولوجية، وهو سيناريو غير مستبعد تكراره مع وريثه الجنرال محمد ديبي.
السودان على خُطى تشاد
لم يقتصر دور الموساد على ترويض تشاد؛ فالسودان هو الآخر كان حاضراً على أجندته، وإن كان بعض الروايات يقول إن تشاد كان لها دور ما في إدخال السودان إلى حظيرة التطبيع، لا سيما في مرحلة ما بعد البشير، فإن هناك روايات أخرى تقول إن العلاقة بين الخرطوم و”تل أبيب” بدأت قبل ذلك، وتحديداً في الفترة الأخيرة من ولاية البشير؛ ففي 20 كانون الثاني/يناير الماضي، كشفت وسائل إعلام عبرية تفاصيل جديدة عن بدايات مفاوضات التطبيع مع السودان، والتي جرت في عهد الرئيس السابق عمر البشير.
جاء في كتاب “سلام ترامب اتفاقيات التطبيع والانقلاب في الشرق الأوسط” الصادر في 2021 عن دار النشر التابعة لصحيفة “يديعوت أحرونوت” لمؤلفه باراك رافيد، أن رونين ليفي – ماعوز؛ مبعوث نتنياهو إلى أفريقيا والملقب بـ”رجل الظل”، تلقى في كانون الثاني/يناير 2019، حينما كان موجوداً في القدس، اتصالاً هاتفياً من الرئيس عمر البشير.
زعم باراك رافيد في كتابه أن المحادثة لم تكن طويلة، لكنها كانت موجزة لفتح قناة اتصال، وجاء فيها أن البشير أبلغ ماعوز بأنه “يريد إقامة علاقات مع إسرائيل”، وأضاف: “أطلب من اليوم أن تتحدث إلى صلاح غوش، وهو أحد المقرّبين إلى البشير، ومستشاره للأمن القومي، ورئيس الاستخبارات في السودان”.
تطورت العلاقة لاحقاً بين ماعوز وصلاح غوش، فطلب الأول من الثاني السماح لطائرة نتنياهو المرور من أجواء السودان في طريق عودته من تشاد، الأمر الذي حدث بقرار فوري من صلاح غوش حتى من دون العودة إلى سلطات الطيران، وواصلت الطائرة طريقها إلى “تل أبيب”.
المتغيّر القيادي لم يُغيّر مسارات التطبيع
عندما تغيّر الحكم في السودان في نيسان/أبريل 2019، وتشكّل المجلس السيادي برئاسة عبد الفتاح البرهان، قفز الأخير إلى التطبيع مباشرة، وأوكل مهمة فتح قنوات الاتصالات إلى نجوى قدح الدم – توفيت في 2020 نتيجة إصابتها بفيروس كورونا، وأرسلت “تل أبيب” طائرة خاصة وفريقاً طبياً إلى الخرطوم لعلاجها- التي كانت تتولى هذه المسؤولية في عهد البشير، وبدأت استئناف عملها في ملف العلاقات السرية مع “إسرائيل” مجدداً في نهاية سنة 2019. وبعد عدة لقاءات واتصالات، رتّبت قدح الدم اللقاء الذي حدث في مدينة عنتيبي في أوغندا، وجمع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ورئيس المجلس السيادي السوداني، عبد الفتاح البرهان، في 3 شباط/فبراير 2020.
كشفت، في حينها، القناة 13 العبرية أن عراب اللقاء هو المحامي الإسرائيلي نيك كوفمان، الذي يحمل الجنسية البريطانية أيضاً، وتربطه علاقة صداقة قوية بمستشارة المجلس السيادي السوداني نجوى قدح الدم، التي طلبت منه أن يأتي إلى السودان، ففعل ذلك في 1 كانون الثاني/يناير 2020، والتقى البرهان حاملاً له رسالة قصيرة باللغة العربية من نتنياهو، ليعود محمّلاً برسالة من البرهان مفادها استعداده لعقد اللقاء، على أن يزور نتنياهو أوغندا علانيةً فيما يأتي البرهان إليها سراً.
تعدد الاتصالات الإسرائيلية بالمكوّنات السودانية
لم يكتفِ الموساد بلقاء البرهان ونتنياهو، فاستدار رئيسه، يوسي كوهين، إلى عقد لقاء آخر مع الفريق محمد حمدان دقلو “حميدتي”، نائب البرهان وقائد قوات الدعم السريع، الأمر الذي أغضب البرهان، وطالب بمعرفة إذا كانت “تل أبيب” تحصر التواصل معه من خلال نائبه أم أنه هو نقطة الاتصال الوحيدة بـ”إسرائيل”.
امتصت “تل أبيب” غضب البرهان، لكنها لم تُغلق خطوط الاتصالات مع “حميدتي”، بل ذهبت إلى أبعد من مجرد الاتصالات، ففي 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، كشفت صحيفة “هآرتس” أن طائرة خاصة هبطت في مطار الخرطوم لمدة 45 دقيقة في شهر أيار/مايو من العام نفسه. ووفقاً لـ”هآرتس”، فإن الطائرة تعود إلى الضابط السابق في الموساد تال ديليان، الذي يمتلك شبكة شركات تكنولوجية تمتد عبر قبرص وجزر فيرجين البريطانية، وتعدّ مصدراً رئيسياً لتقنيات التجسس في عديد من دول العالم، بما فيها بعض دول الشرق الأوسط.
وأشارت “هآرتس” إلى أن طاقم الطائرة كُلِّف بتسليم جهاز تجسس لقائد قوات الدعم السريع في السودان “حميدتي”، وقالت الصحيفة إن علاقات وطيدة تربطه بالاستخبارات الإسرائيلية، وأنه التقى ممثلين عن جهاز الموساد الإسرائيلي في الخرطوم، ونقل الجهاز إلى دارفور. وأوضحت الصحيفة، نقلاً عن 3 مسؤولين أوروبيين، أن جهاز التجسس صنع في الاتحاد الأوروبي، وهو قادر على “تغيير موازين القوى” في السودان، وبإمكانه تحويل الهاتف الذكي إلى أداة تجسس على مالكه.
“تل أبيب” وتغليب المكوّن العسكري في السودان
واصل الموساد فتح قنوات اتصال مع المكوّنات السودانية، مغلّباً فيها المكوّن العسكري، الأمر الذي أقلق المكوّن المدني في المجلس السيادي، وتحديداً عقب زيارة ضباط من الموساد للخرطوم ولقائهم الفريق “حميدتي” في حزيران/يونيو 2021، فعدّت الزيارة، سودانياً، محاولة إسرائيلية لتقويض حكومة حمدوك، خاصة أنه بعد 4 أشهر فقط، زار وفد سوداني عسكري رفيع المستوى “تل أبيب”، سراً، في مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2021، وتكوّن من اثنين من كبار القادة العسكريين هما: الفريق حميدتي والفريق ميرغني إدريس سليمان، مدير منظومة الصناعات الدفاعية السودانية. وقد جرى خلال الزيارة التطرق إلى الأزمة السياسية في السودان، لا سيما بعد مطالبة قوى الثورة التي نظمت عدة تظاهرات بتسليم السلطة للمدنيين.
تمدّدت ملامح الاستقواء بالدخول الإسرائيلي على خطوط المسار السياسي السوداني وعسكرته في دعوة الفريق حميدتي، بصفته قائد قوات الدعم السريع، وفداً أمنياً إسرائيلياً لزيارة السودان في 19 كانون الثاني/يناير 2022. وقد عقد الوفد الأمني الإسرائيلي لقاءات مع قيادات عسكرية وأمنية سودانية شملت قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، ونائبه الفريق حميدتي ومدير الاستخبارات العامة الفريق إبراهيم مفضل.
وتركز اللقاء على الأوضاع الأمنية والتوتر الحاصل في الشارع السوداني ودعم قوات الدعم السريع. ومن الواضح أن دخول “إسرائيل” على المشهد السياسي في السودان مستمر، ولن ينتهي أو يتوقف حتى توصل من تريد إلى سدّة الحكم في الخرطوم.
عسكرة التطبيع
سيناريو دعم “تل أبيب” شخصية موالية لها لتولي الحكم في السودان غير مستبعد، وقد تكرر في عدة دول أفريقية، منها ما حدث في جمهورية الكونغو الديمقراطية وإيصال الجنرال موبوتو سيسي سيكو في ستينيات القرن الماضي إلى الحكم. حدث الأمر ذاته أيضاً في أوغندا مع عيدي أمين.
يبدو أن السيناريو يتكرر مع السودان، وآخر شواهد ذلك وصول وفد إسرائيلي إلى السودان في الرابع من شباط/فبراير الجاري، برئاسة وزير خارجية كيان الاحتلال إيلي كوهين، ولقاؤه رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، وتأكيدهما المضي قدماً في التطبيع، ووضعهما اللمسات الأخيرة على نص اتفاقية التطبيع.
وقد ألقى كوهين ما يشبه القنبلة عندما قال إن حفل توقيع التطبيع سيكون “بعد نقل السلطة في السودان إلى حكومة مدنية”. بالون الاختبار هذا الذي ألقاه كوهين لم يكن عبثاً، فالرجل لا يريد إغضاب واشنطن، لكنه أغضب الفريق “حميدتي”، الذي أعلن أنه لم يكن على علم بالزيارة، ولم يلتق الوفد الإسرائيلي.
ختاماً، قد يبدو التوقيع على اتفاق التطبيع بين “تل أبيب” والخرطوم قريباً جداً، لكنه لن يكون كما أراد كوهين أن يمرر، بأن من سيوقّع هو حكومة مدنية سودانية، لأن المتتبع لمسارات التطبيع أفريقياً، يجد أنه محكوم بمقاربة من شقين: الأول، أنه لا يتم ولا يحدث مع أنظمة سياسية ديمقراطية وصلت إلى الحكم بطريقة طبيعة بل مع الجنرالات، والثاني أن تخطيط التطبيع ورعايته يقوم بهما “رجال الظل” من ضباط الموساد، وإن كان عبد الوهاب المسيري يعرف التطبيع بأنه “تغيير ظاهرة ما بحيث تتفق في بنيتها وشكلها واتجاهها مع ما يعدّه البعض طبيعياً”، فإن علاقة قام بها وأشرف عليها وخطط لها جهاز الموساد هي علاقة غير طبيعة، وإن سُمّيت تطبيعاً، ولا تحدث إلا في مشهد يحكمه الجنرالات، كما في تشاد والسودان وغيرهما.
تسلل التطبيع من بوابة الموساد
إن تسلل التطبيع إلى أفريقيا من بوابة الموساد ليس مجرد سيناريو متوقع أو متاح، فخارطة التغلغل بوساطة “رجال الظل” ممتدة، وهو ما أشارت إليه ونبّهت منه قبل عامين مجلة “جون أفريك” الفرنسية في عددها لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021، في مقال افتتاحي كتبه فانسان دوهيم، جاء فيه أنه وراء علاقات “إسرائيل” الدبلوماسية بدول القارة، هناك دبلوماسية موازية يديرها رجال أعمال ومستشارون وشركات ينشطون في القارة الأفريقية منذ فترة طويلة، ويخدمون بصورة غير مباشرة مصالح “إسرائيل” في مجالات تشمل الاتصالات والتنصت والرقابة الإلكترونية والأمن السيبراني والتسلح.
ومن أشهر هذه الشركات NSO التي صنّعت نظام التنصت بيغاسوس، والتي تنشط في الكونغو وغينيا ونيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وشركة Elbit Systems التي تنشط في أفريقيا الجنوبية وأنغولا وأثيوبيا ونيجيريا، وهي شركات يديرها ضباط سابقون في جهاز الموساد، من بينهم شبتاي شافيت الذي ترأس جهاز الموساد في الفترة بين 1989 و1996، ويمتلك معرفة كاملة بالقارة الأفريقية.
بقلم: ثابت العمور
المصدر: الميادين