المبادرات الحكومية في مجالات سلطة القانون، والتهديدات على الهوية الديمقراطية لإسرائيل، والسلوك تجاه الفلسطينيين عامة، (بما في ذلك خطوات داخل الحرم)… من شأنها أن تؤثر على قوة إسرائيل الاستراتيجية. وهذه تعتمد على مدماكين مركزيين: قوة الجيش وجهاز الأمن، والفهم السياسي الذي يسمح بحرية عمل استراتيجية. وبينما تأخذ القدرات الأمنية العسكرية الإسرائيلية في التحسن، فقد ينشأ في المجال الاستراتيجي تآكل في منظومة العلاقات مع الإدارة الأمريكية والدول العربية. وذلك بشكل سيؤثر سلباً في القدرة على بلورة جواب استراتيجي على التهديد الإيراني وتحقيق التطبيع مع السعودية.
وفقاً لمنشورات عن زيارة وزير الخارجية بلينكن إلى إسرائيل، يتبين أن الإدارة الأمريكية تطلب من إسرائيل إبداء لجم مهم في السلوك تجاه الفلسطينيين، بهدف منع اشتعال وترك فتحة ضيقة على الأقل لمسيرة سياسية. إلى جانب ذلك، تعرب الإدارة بشكل لا يقبل التأويل عن موقفها بأنها تتوقع من الحكومة الحفاظ على القيم الديمقراطية المشتركة للدولتين. من هنا يتبين أن الإدارة لن توافق على قبول وضع يقر فيه الإصلاح القضائي كما ينص عليه. والمعنى، سيكون هناك ضرر جسيم بحميمية العلاقات بين رئيس الوزراء والرئيس بايدن والمؤسسة الديمقراطية. فضلا ًعن ذلك، فإن حقيقة امتناع الإدارة حتى الآن، وبشكل استثنائي، عن بعث دعوة علنية لرئيس الوزراء لزيارة الولايات المتحدة، إنما تعكس ترقباً بتغيير جوهري في سياسة إسرائيل إزاء الفلسطينيين والمستوى الداخلي. ولهذا ينبغي أن تضاف إشارات التحذير من مؤسسات اقتصادية رائدة في الولايات المتحدة وفي أوروبا عن المس المحتمل بالتصنيف الائتماني لإسرائيل.
تستند قوة إسرائيل بقدر كبير إلى التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. وضعضعة العلاقات من قد تتسبب بصورة ضعف إسرائيل، وذلك بشكل ربما يزيد ثقة أعدائنا (وعلى رأسهم إيران و”حزب الله” وحماس) ويشجعهم على تنفيذ خطوات استفزازية ضد إسرائيل. في سياق محتمل، ينطوي شهر رمضان وارتباطه بالمشاعر الدينية على إمكانية إشعال عنف، خصوصاً إذا ما اتخذت الحكومة إجراءات تعد كإجراءات ترمي إلى تغيير الوضع الراهن في الحرم.
إن على تعاظم التهديدات الاستراتيجية أن يشعل أضواء تحذير ويشكل عنواناً لأصحاب القرار في الدولة. فالميول المتكونة تشكل تهديداً على الأمن والحصانة القومية، بل ومن شأنها أن تؤثر على صورة قوة إسرائيل في المجال وعلى مجال مناورتها الاستراتيجية في الجبهات المختلفة. على أي حال، هذا ليس قدراً بل إجراءات قابلة للتراجع. عملياً، لا تزال الحكومة تمسك في يديها المفاتيح، وفي وسعها أن تقود الضفة نحو مسار يحفظ القوة الاستراتيجية لإسرائيل، مثلما عملت في إخلاء البؤرة الاستيطانية في “أور حاييم” وتأجيل الإخلاء للخان الأحمر.
لهذا الغرض، على الحكومة اتخاذ عدة خطوات؛ فعليها أن توقف العمل على الإصلاحات القضائية وتعمل على حوار بين كل ألوان الطيف السياسي في محاولة للوصول إلى إجماع واسع. وبالتوازي، عليها أن تمتنع عن خطوات تضعضع الاستقرار مع الفلسطينيين. بعضها ذات معنى رمزي فقط، وفيها ما يؤدي إلى تصعيد الوضع. وثمة أهمية خاصة للسلوك داخل الحرم، والذي قد يصبح بؤرة اشتعال ويحدث مواجهة عنيفة ذات مميزات دينية. لقد حان الوقت لأن تختار الحكومة قوة استراتيجية لدولة إسرائيل من خلال سلوك حكيم ومسؤول، وبين استمرار الخطوات ستؤدي إلى ضعف استراتيجي.
الساحة الفلسطينية
يتواصل الاعتمال في الساحة الفلسطينية، سواء في سياق التهديدات تجاه إسرائيل أم في سياق استقرار الحكم الفلسطيني الداخلي. وهذا الواقع يجسد للحكومة ثمناً ينطوي عليه اتخاذ خطوات ثورية في الوقت الحالي ويلزمها بالمرونة وإبداء الحكمة، وفي خلفية ذلك خليط بين احتمال تصعيد التوتر قبيل رمضان، والضغط الخارجي المتزايد. وذلك بخاصة من جانب الإدارة الأمريكية التي عرضت مواقفها وتوقعاتها من الحكومة في الموضوع الفلسطيني بشكل واضح في أثناء زيارة بلينكن. وليس صدفة أن الأخير ترك وراءه في البلاد باربرة ليف، مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، وهادي عمرو الذي يعمل كمبعوث خاص من إدارة بايدن للمسألة الفلسطينية؛ وذلك بهدف أن يعملا على ضمان ألا تتخذ إسرائيل أو السلطة خطوات متطرفة قد تؤدي إلى ضعضعة الاستقرار.
في الخلفية علامات استفهام متزايدة على استقرار السلطة. ويبرز في هذا السياق وهن في قدرة السلطة على الحكم ونشاط أجهزة الأمن الفلسطينية في منطقة أريحا، مما يضاف إلى الفراغ السلطوي المتواصل في منطقة شمال السامرة، وبخاصة في مدينة جنين. من شأن الأمر أن يشهد على التسلل التدريجي لما يحصل في جنين إلى مواقع أخرى في الضفة وعلى الصعوبة وانعدام الدافعية لدى السلطة لفرض إمرتها في الميدان. هذا التطور يثير كما أسلفنا مخاوف شديدة في الإدارة الأمريكية التي تحث قيادة السلطة على العمل بتصميم أكبر.
إن مكانة السلطة المهزوزة ربما تتضرر أكثر بعد العقاب الاقتصادي الذي تفرضه إسرائيل عليها في الأسابيع الأخيرة. ومن شأن طريقة العمل هذه أن تزيد التفجر مع حلول رمضان وتبعث على مخاوف لنشوب فراغات سلطوية. على هذه المخاطر أن توقظ تفكيراً إضافياً لدى أصحاب القرار في إسرائيل حول ضرورة الإجراءات العقابية وغيرها من الإجراءات التي ربما تتخذ صورة عوامل تغير الواقع بعامة وفي الوقت الحالي بخاصة.
الحرب في أوكرانيا – ضغوط متزايدة على إسرائيل
التصعيد المتوقع للحرب في أوكرانيا في الأسابيع القادمة واتساع العلاقات الاقتصادية بين روسيا وإيران، أمور تؤدي إلى زيادة الضغوط على إسرائيل لتغيير سياستها والوقوف بشكل واضح إلى جانب أوكرانيا. بهذه الروح يمكن أن نرى المنشورات عن نقل ذخيرة أمريكية من المخازن في إسرائيل وطلبات الولايات المتحدة من إسرائيل بتزويد أوكرانيا بصواريخ مضادة للطائرات قديمة. وبهذه الروح قد نرى المطالبات الإيرانية من إسرائيل لشجب الاجتياح الروسي (إلى جانب طلبات اقتصادية وإنسانية وأخرى)، كشرط لزيارة وزير الخارجية كوهين إلى كييف.
رغم ذلك، وفي ضوء قدرة الضغط الروسي والخوف من المس بحرية العمل ضد أهداف إيرانية في المجال، يُعرض على الحكومة الاستمرار في اتخاذ سياسة حذرة والامتناع عن تزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية. وفي الوقت نفسه، على إسرائيل أن تعبر عن تأييد غير متحفظ لأوكرانيا وتزودها بمساعدة واسعة قدر الإمكان وفقاً للخطوط الحمراء الروسية.
المواجهة الأمريكية الصينية
حادثة بالون التجسس الصيني، وإلغاء زيارة وزير الخارجية بلينكن إلى الصين، وتوسيع العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة والفلبين، أمور تعكس ارتفاعاً في درجة في الخصومة بين القوتين العظميين. وذلك استمراراً للتوتر المتزايد حول تايوان، والمنافسة التجارية وحرب الشرائح الإلكترونية، مثلما أيضاً للعلاقات المتوثقة بين الصين وروسيا وحقيقة أن بكين توفر لموسكو مظلة حماية سياسية واقتصادية. هكذا خصص الرئيس بايدن جزءاً من الخطاب عن وضع الأمة للتحدي المتزايد من الصين، وليس صدفة أن عرفت الصين في وثيقة “استراتيجية الأمن القومي” التي نشرت في تشرين الأول الماضي كتهديد مركزي وأنها الدولة الوحيدة التي تشكل بديلاً حقيقياً للولايات المتحدة بسبب تطلعاتها الجغرافية السياسية وقدراتها (التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية).
في الخلفية، ثمة تخوف متزايد في واشنطن من توسيع العلاقات بين الصين ودول الخليج، كما وجد الأمر تعبيره في زيارة الرئيس شاي إلى السعودية في أواخر 2022. وبقدر ما يتسع هذا الميل من شأنه أن يثقل على التعاون الأمني والعسكري بين الولايات المتحدة وهذه الدول (مثلما حصل في صفقة بيع الطائرات القتالية F35 للإمارات).
في ضوء هذه التطورات، يبدو أن مجال مناورة إسرائيل تقلص، وهي مطالبة بإبداء نهج حذر أكثر مما في الماضي في كل ما يتعلق بتطوير العلاقات الاقتصادية مع الصين. عملياً، يتعين على إسرائيل أن تزيد الرقابة على التعاون الحكومي من جانب محافل خاصة مع جهات وشركات صينية، وبخاصة في المجالات التي تتعلق بالتكنولوجيا والسايبر.
بقلم: طاقم المعهد برئاسة اللواء احتياط عاموس جلعاد
معهد السياسة والاستراتيجية IPS 15/2/2023
المصدر: القدس العربي