يأتي الاتفاق السعودي الإيراني بعد قطيعة دبلوماسية دامت سبع سنوات، والتي هددت الاستقرار والأمن في المنطقة، مما ساعد في تأجيج الخلافات والصراع في سوريا واليمن، الأمر الذي أعطى إسرائيل القدرة على التحرك باتجاه منطقة الخليج والسير نحو التطبيع بسهولة تحت إطار ما يسمى بالتحالف الإبراهيمي، والذى نجم عنه تقدماً كبيراً لصالح إسرائيل، فبنت من خلاله علاقات لا بأس بها من المنظور السياسي والأمني والاقتصادي. الاتفاق
والجدير بالذكر أن إدارة بايدن التي كانت تراقب الوساطة الصينية عن كثب دون المشاركة المباشرة في اللقاءات كانت تكتفي بالاطلاع المباشر على كل تفاصيل الحوار من خلال الطرف السعودي.
الإدارة الأمريكية تغاضت عن هذا التحرك الصيني بشكل أو بآخر لسد الفراغ الأمريكي، ولعب دور هام مع حليف استراتيجي كالسعودية بسبب انشغالها في أحداث الحرب الروسية الأوكرانية، مما جعلها تولي المنطقة أهمية دبلوماسية قليلة في الفترة الحالية. هذا كله وفى مجمله أعطى فرصة وهامشاً للتدخل الصيني بزيادة نفوذه.
هذا التدخل الصيني أدى إلى إعادة العلاقات الإيرانية السعودية بعد انقطاعها منذ عام (٢٠١٦م) على أسس وشروط كان من أهمها الشرط السعودي الذى بنيت عليه هذه الاتفاقية، وهو حل قوى ومرض للخروج من أزمة الملف النووي الإيراني، وتكمن خطورة هذا الاتفاق فيما سيترتب عليه بخصوص الاتفاق النووي، بمعنى أن أي أزمة حول الملف النووي الإيراني فإنها ستهدد هذه الاتفاقية بالانهيار، ويتم العودة إلى الأزمة نفسها، ويتم الرجوع إلى النتيجة نفسها التي سبقت هذا الاتفاق.
الجديد في هذا الاتفاق أن الصين توافقت مصالحها حول استقرار المنطقة مع رؤية الولايات المتحدة من خلال حرصها على مصالحها فهى تحصل على ما نسبته 40% من طاقتها من الخليج وإيران إضافة إلى الإتفاق الاستراتيجى مع إيران، ومدته 25عام تمدها إيران بالطاقة وبسعر منخفض30%مقابل مشاريع تنموية وبنى تحتية تقوم بها الصين داخل ايران ،إضافة إلى أنها أصبحت الصين الأن في واجهة الأحداث في حال تأزم الحل النووي الإيراني، الأمر الذى سيدفع الصين لتكون طرفاً على الأقل ليس داعماً للموقف الإيراني. وأعتقد أن لدى الإدارة الأمريكية القدرة على إفساد هذا التوافق الذى رعته الصين من خلال تشديد موقفها للحل من خلال الحشد الدولى لموقف موحد حول الملف النووي الإيراني، مما يجبر إيران في نهاية المطاف إما بالانصياع للموقف الدولى أو بالانسحاب من المفاوضات -ولو مؤقتاً- كما حصل في الجولات الأخيرة من الحوار، والذى على إثره تأزمت العلاقات الدولية.
لكن مصلحة الولايات المتحدة الآن الهدوء والاستقرار فى المنطقة ، هذا التطور الذى تحدثه الصين على الصعيد “الجيو اقتصادي” ومن ثم التحرك السياسي في المنطقة يسجل لها نقطة تحول هامة قد تجعلها أكثر تحركاً ودبلوماسية وتمسكا بمصالحها في المنطقة. والسؤال الأهم هنا: هل يعنى هذا التوافق السعودي الإيراني خروج السعودية من العباءة الأمريكية، وإنهائها لاتفاقية ” كونيسى”؟. وللإجابة على ذلك لابد من استعراض تاريخي جزئي لهذه الاتفاقية التي توضح مدى العلاقات والمصالح المشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية.
(كونيسى) هي السفينة الحربية العملاقة التي تتبع للجيش الأمريكي، والتي على متنها دار اللقاء بين الرئيس الأمريكي السابق “فرانلكين روزفلت” ومؤسس مملكة آل سعود (الملك سعود، والملك عبد العزيز)؛ ليتوج هذا اللقاء باتفاقية “كونيسى”، والذى وقع عليها وزير الخارجية الأمريكي آنذاك “وليام إيدى” ونائب وزير الخارجية السعودي “يوسف ياسين”، حيث شملت هذه الاتفاقية العديد من البنود الهامة، والتي كان أهمها وأبرزها: تعهد الولايات المتحدة الأمريكية بحماية المملكة من أي غزو أو خطر خارجي، والحرص على استقلالها، وفك الارتباط مع بريطانيا بما فيها فك الارتباط من عملة “الجنيه الإسترليني” واستعاضته بالدولار الأمريكي، ومشاركة السعودية في الحرب مع الحلفاء في مواجهة دول المحور”المانيا-النمسا- المجر ،”وقد مضى على هذه الاتفاقية (6) ملوك من آل سعود، و(14) رئيساً أمريكياً بين جمهوري وديمقراطي، وكانت التصريحات دائماً بالتشديد على الحفاظ على قوة العلاقة بينهما، والتي مازالت على نفس النهج والنسق -رغم الاختلافات السابقة فى السياسات والمصالح على مدار العلاقة التاريخية بين السعودية -والولايات المتحدة ،و إضافة إلى التوثر الحاصل فى العلاقة بين الأمير (محمد بن سلمان) وإدارة (بايدن)- والتي كان آخرها الخلافات بين البلدين، والتي خرجت من الغرف المغلقة إلى الفضاء الإعلامي.
وإنه على الرغم من التهديد الأمريكي بوقف تصدير السلاح، وإعادة تقيم العلاقات ردًا على خطوة الأمير (محمد بن سلمان) بتخفيض زيادة الإنتاج إلى “مليوني برميل” يومياً، والذى جاء رفضاً للطلب الأمريكي بزيادة الإنتاج فإن العلاقة الأمريكية السعودية ما زالت تحظى بالقوة والمتانة، ولا زالت تربطها مصالح كبيرة وخيارات استراتيجية، فليس من السهل قطعها وإنهاؤها، بل ربما يكون الخلاف الحادث في المتحرك وليس في الثابت بالنسبة للسياسة الأمريكية السعودية.
والسؤال المطروح هنا: أليس الهدوء في المنطقة طلباً أمريكياً يتوافق مع رؤية السعودية لحل الأزمة النووية الإيرانية من خلال لغة الحوار والمفاوضات بعيدا عن الموقف “الإسرائيلي” الذى يدفع بضربة عسكرية لطهران؟، هذه الضربة التي تسعى لها إسرائيل أمر ترفضه إدارة (بايدن)؛ وذلك للحفاظ على ما تبقى لها من مصالح حيوية في المنطقة، وعدم المقامرة بخطوة الحرب التي يمكن أن تمتد نيرانها إلى حرب كونية تخرج عن نطاق الإقليم، بل ربما تكون إدارة بايدن هي التي دفعت باتجاه هذا الحوار في سبيل حل الأزمة النووية الإيرانية؛ وذلك بعد فشلها في حروبها على العراق وأفغانستان والصومال من قبل؛ وذلك نتيجة لحالات الاستنزاف التي نتجت عن مطامع أمريكا التوسعية، مما ساهم في استنزافها، وزاد من رقعة أعدائها، بالإضافة لفشل دورها في إحلال السلم والأمن الدولي الذي كانت تعتقد في نفسها أنها صاحبة القرار في ذلك.
وخلاصة القول: إن التقارب السعودي الإيراني لن يؤثر على العلاقات الأمريكية السعودية، ولن يخرج السعودية من العباءة الأمريكية؛ لأن الأخيرة لا زالت قادرة على إفشال مخرجات هذا الاتفاق في أي لحظة، بالإضافة إلى العلاقات المصلحية الكبيرة بين السعودية وأمريكا، والتي لا يمكن للصين حالياً طرح نفسها كبديل لأمريكا، وبالتالي: فهو يدخل في هامش المناورة السياسية بما يحقق بعضاً من المصالح المحدودة للصين وللسعودية، وتحت نظر الأمريكيين الذين يناسبهم هذا التقارب وهذا الحوار؛ لأنه يحقق لهم بعض المصالح غير المعلنة في تهدئة المنطقة حتى تتفرغ للحرب الروسية الأوكرانية كما أسلفنا.
بقلم: ياسر الخواجا
المصدر: فلسطين اليوم