قبل أيام، دخلت الأزمة الأوكرانية عامها الثاني، ليحتد الصراع بصورة غير مسبوقة بين الغرب وروسيا، منذ نهاية الحرب الباردة في التسعينات من القرن الماضي، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في تداعيات ضخمة، لم يقتصر نطاقها على ميدان المعركة، أو محيطها الجغرافي، وإنما امتدت إلى مختلف دول العالم، عبر أزمات ناجمة عنها تراوحت بين نقص الغذاء وأمن الطاقة، وحتى أوضاع اقتصادية وسياسية غاية في الصعوبة، جراء عدم قدرة الدول على معالجة الأوضاع في الداخل، وهو ما بدا في الدول ذات الإمكانات الكبيرة والضعيفة على حد سواء، مما أبرز الحاجة الملحة لتحقيق أكبر قدر من التكامل الدولي، ليس فقط على النطاق الاقتصادي، ولكن أيضا سياسيا ودبلوماسيًا، للوصول إلى حلول للأزمة، وهو ما يبدو في بزوغ الدور الذي يمكن أن تلعبه الدول التي أعلنت الحياد، من مناطق تبدو بعيدة جغرافيًا عنها، في إطار قدرتها على تقديم نفسها كوسيط يمكن الوثوق به.
ولكن بعيدا عن الأزمة وتداعياتها الكبيرة، تبدو معضلة أكبر تتجسد في قدرة المجتمع الدولي في “تشخيصها”، خاصة وأن التشخيص الصحيح دائما ما يؤدي بالتبعية إلى علاج سليم، لنجد في النهاية خلافا قائما حول التسمية، بين مفهوم “الغزو”، الذي يروج له الغرب، على اعتبار موسكو قوة احتلال، على الأراضي الأوكرانية، ومصطلح “العملية العسكرية”، والذي تستخدمه روسيا منذ اليوم الأول لإقدامها على الحسم العسكري، في فبراير 2022، والتي تهدف، بحسب المنظور الروسي، دفاعا استباقيا، في مواجهة التهديد الذي تمثله كييف، خاصة مع احتمالات انضمامها لحلف الناتو، وهي الخطوة التي أعربت موسكو عن رفضها الكامل لها منذ سنوات.
فلو نظرنا إلى العديد من النماذج التاريخية، ربما نجد أن النهاية ارتبطت بـ”التشخيص” الصحيح للحالة الدولية القائمة، على غرار الحرب العالمية الثانية، والتي اعتبر فيها “الحلفاء” سلوك دول المحور استعماريا توسعيا، فكان العلاج هو الحرب والانتصار وإسقاط الأنظمة القائمة ذات النزعة الاستعلائية، وهو ما تحقق بعد ذلك، لتنتهي معها سطوة الامبراطوريات الأوروبية الاستعمارية، وتتحول القيادة العالمية، إلى القوى التي ساهمت في الانتصار (للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي)، وحتى خلال حقبة الحرب الباردة، والتي اعتمدت صراع الأيديولوجيات، كان الهدف، ليس مجرد إسقاط نظام الحكم، وإنما تفكيك القوى الأخرى، في إطار “بارد” لا يعتمد المواجهة المسلحة المباشرة.
وهنا تبدو معضلة الأزمة الأوكرانية، في تحديد ماهيتها، وبالتالي القدرة على اختيار الطريق الأنسب لعلاجها، وهو ما يبدو واضحا في انقسام المعسكر الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة، حول الموقف من روسيا، سواء فيما يتعلق بالعقوبات المفروضة عليها، أو حتى النتائج المرجوة التي من شأنها إنهاء الأزمة، والتي ربما امتدت إلى حالة من التضارب في تصريحات بعض الساسة والمسؤولين الدوليين، على غرار وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، والذي دعا مرة إلى التفاوض مع موسكو، بينما عاد بعدها إلى الحديث عن هزيمة روسيا، باعتبارها صارت قادرة على تهديد أمن أوروبا بأسرها.
بينما تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كذلك عن ضرورة هزيمة روسيا في أوكرانيا ولكن دون سحقها، وهو ما يعني رغبة فرنسية في أن تخسر موسكو المعركة ولكن لا تخسر الحرب، وهو ما بدا في تأكيده على استعداد بلاده لنزاع طويل الأمد، وهو ما يمثل تغييرا كبيرا، على الأقل من وجهة نظر بعض أطراف الأزمة، على ضرورة الإبقاء على روسيا كطرف دولي فاعل، في المعادلة الدولية، وهو ما يمثل سيناريو مختلف عن سيناريوهات الحروب العالمية التي دارت حول حول إسقاط الأنظمة أو تفكيك الدول.
يبدو استخدم مفهوم “الهزيمة” مقبول تماما في زمن الحروب، ولكنه يبدو مختلفا، هذه المرة، حيث يدور في جوهره على إجبار موسكو على التفاوض، وليس سحقها، خاصة بعد تلويح الأخيرة، بإمكانية استخدام السلاح النووي، وهو ما يبدو في قرار الرئيس فلاديمير بوتين بالانسحاب من معاهدة “ستارت” النووية، وهو ما يمثل خسائر فادحة العالم بأسره إن حدث، بينما يساهم في تقوية التحالف الروسي الصيني، والذي يسعى الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة لتفكيكه.
ربما تبقى الرؤية الغربية في حاجة إلى المزيد من التوازن، في ظل غياب الضغط على الجانب الأوكراني، للوصول إلى مائدة المفاوضات، والإعلان المتواتر عن تقديم المساعدات العسكرية بكييف، وهو الأمر الذي من شأنه إطالة أمد الصراع في أوكرانيا، واحتمالات الخروج عن الخط المرسوم لها، مما قد ينبيء بكارثة دولية ضخمة يصعب تدارك تداعياتها.
وهنا يمكننا القول بان الحاجة تبدو ملحة لتحقيق قدر من التوازن في المواقف الدولية بناءً على “تشخيص” صحيح لماهية الأزمة القائمة، بمنظور أكثر اعتدالا بين الرؤية الروسيه ونظيرتها الغربية، بعيدا عن مفاهيم الإقصاء، القائم على “سحق” المارقين، خاصة وأن الحقيقة التي يدركها الجميع أن تكرار مشهد الحرب الباردة ليس في خيارات موسكو، ناهيك عن حالة الانقسام الراهن في المعسكر الغربي لن تؤدي إلى الانتصار المطلق.
المصدر: اليوم السابع