بما إن مارس هو شهر المرأة بامتياز، يكون كلامي في هذا المقال عن فيلم جريء تصدى لدعم المرأة بطريقة لافتة وغير تقليدية، حيث استخدم صناعه الكوميديا كشكل للتعبير عن معركة المرأة مع الحرية والتعليم، وهو ما نلحظه بداية من تيتر فيلم “الآنسة حنفي” (1954) تأليف جليل البنداري وإخراج فطين عبد الوهاب، وعناوينه التي تنزل على صورة اسماعيل ياسين وماجدة في لقطة طريفة يبدو فيها الأول خجولًا و”مستحيًا”، والثانية مندهشة ومتسائلة بنوع من الوعيد، كما يظهر المشهد الأول بزغاريده ونسائه من داخل إحدى الحارات الشعبية، ليأخذنا إلى الحضور النسائى الاستحواذي فى هذا الفيلم السابق لعصره بكل المعايير.
“طالع من الشق يشتق وله عينين وحواجب بحق”، تقولها فلة (زينات صدقي) بتهكم واحتجاج في الفيلم، ردًا على تعنت حنفي “اسماعيل ياسين”، ابن الزوج الذي يمارس “حمشنته” الذكورية على نساء بيته، لدرجة أنه يمنعهم من الإطلالة على الحارة من النافذة، متحججًا بأنه رجل “حمش” لم يسمح حتى لأمه قبل رحيلها بالنظر من النوافذ، على اعتبار أنه الفعل العيب، غير المسموح به للنساء، وهو ما ترفضه نواعم “ماجدة الصباحي” ابنة زوجة الأب:”هو إحنا في سجن ولا إيه؟”، مستنكرة أفعاله التي تسببت في حرمانها من مواصلة تعليمها، والاكتفاء بالابتدائية التي فشل هو نفسه في الحصول عليها، تخبره نواعم وهي تستصغر تعسفه: “الستات في أوروبا بتخطب في البرلمان واحنا لسة هنقف ورا الشبابيك”، فتساندها والدتها: “المرأة دلوقتي لها حق مساوي للرجل”.
هذا الحوار الجدلي استخدم فيه كل واحد من الممثلين أسلوبه الخاص في الأداء، بين أسلوب اسماعيل ياسين الحركي واستخدامه لجسده ووجهه وصوته، وبين خفة ظل زينات صدقي المتفجرة، وثبات ماجدة وتباهيها بدور الفتاة التي تمتلك عزمًا لا يلين.. كل هذا في بداية فيلم المفروض أنه كوميدي مائة في المائة، لكنه غير مسبوق في جرأته، فيلم يستخدم الكوميديا ذريعة يناهض بها الاستبداد الذكوري والظلم الاجتماعي للمرأة، وينتقد محاصرة الرجل للمرأة بسياج كلمة ممنوع، بينما يستمتع هو بالسهر في الكباريهات مع أصدقائه، ثم يناوش الفيلم هذا الاستبداد وينقل القصة إلى محور أخر شديد السخرية، حين يتحول “حنفي” إلى “فيفي” بعد إجرائه عملية عبور جنسي من رجل لامرأة.
إنه التحول الذي تبدّل فيه مسار بطل الفيلم من رجل متشدد، يغلق النافذة في بداية الأحداث، إلى امرأة تفتح النافذة في النهاية، إنسانة تصبو نحو حريتها وحقها في الاختيار، بأسلوب مخرجه فطين عبد الوهاب شديد المصرية في السخرية والتندر وصنع الإيفيهات والمفارقات الضاحكة، وجسارة كاتبه جليل البنداري الذي أنتج الفيلم بنفسه، بعد أن خشي المنتجون التصدي لقصة تتناول قضية حساسة مثل تحول رجل إلى امرأة حتى ولو حتى في إطار كوميدي، أتصور أن اختيار الكوميديا كان الحل الأمثل لتمرير الحكاية، ومع ذلك لم يستسهل صناع الفيلم ويصنعون الفكاهة السطحية، بل بدت الكوميديا هنا على قدر بساطتها عميقة، تحمل الكثير من الخيال والأفكار التقدمية بما يتناسب مع الظرف الزمني والتحولات السياسية والفكرية وقتذاك، تحديدًا بعد ثورة يوليو 1952، وما تبعها من تبدلات طليعية.
المثير أن هذه القضية ربما يصعب تقديمها الآن، أي بعد نحو 68 عامًا من إصدار الفيلم، لندرك أهمية الفيلم وصعوبة إنتاجه لولا رسوخ المستنيرين، ونباهة صُناع قدموا الرجل كنموذج بشري يعتريه ضعف ما، إنه ليس خارقًا أو شريرًا أو حتى عنيفًا هذا العنف المؤذي، حتى شخصية حنفي نفسها رغم الهيمنة على نساء بيته، تنقصها القوة والجلد، بينما شخصية الأب المعلم كتكوت الجزار (عبد الفتاح القصري)، ظهرت مرهفة الحس ومغايرة لشخصية الجزار كما ألفناها على الشاشة، إذ هو حائر بين مشاحنات ابنه وزوجته وابنتها، ومستغرق في تربية الحمام الذي أطلق عليه أسماء العشاق القدامى:”عنتر وعبلة، روميو وجولييت، قيس وليلى”، أما صبيه أبوسريع (رياض القصبجى)، فهو مذعور، هارب من مطلقته (وداد حمدى)، في حين يظهر حسونة (سليمان نجيب) كرمز للزمن الذي انتهى وأنفق فيه أمواله لشراء البكوية، لكن الثورة ألغت الألقاب فضاعت أمواله هباء، لتلازمه الحسرة وجملته الشهيرة:”لو كنت خدت الوصل”، ربما كان حسن (عمر الحريرى) طالب الطب البيطرى الذى يحب نواعم، هو النموذج الأكثر اتزانُا، ومع ذلك فإن نواعم كانت الأجرأ منه في مواجهة المجتمع لتحقيق علاقتهما.
من هنا يمكنني أن أفهم القصة التي رواها لي الناقد الكبير كمال رمزي، حين رصد ردود أفعال المتفرجين ومعظمهم من الألمان، لما شاهدوا “الآنسة حنفي” في مهرجان برلين للفيلم العربى عام 2011، حيث ضجت الصالة بضحكات صاخبة، لم يصدق الألمان أن فيلمًا قديمًا يكون بهذه الجرأة والنضارة، بل أخبرته متفرجة أن الفيلم يعبر عن ألمانيا في الزمن الحالي، ودللت بأن المرتب الذى تحصل عليه المرأة أقل من الذى يحصل عليه الرجل، برغم تماثل الوظيفة.
إذن، نحن أمام فيلم يستمر في تأكيد تميزه سواء على مستوى موضوعه أو شكله الكوميدي، على الرغم من بعض الأخطاء العلمية التي يمكن التغاضي عنها، مثل القدرة على الحمل والإنجاب للشخص المتحول، لكنه توغل في تضاريس العلاقة بين المرأة والرجل، لنرى في البداية حنفي الذي يقمع المرأة في بيته بهواجسه البالية، ثم حين يتحول إلى امرأة، تنقلب أحواله ويصبح فيفي التي تقاوم كل وسائل القمع ضد النساء، وتناضل من أجل حقها في الاختيار والزواج من الرجل الذي أحبته، بل أن الحوار، بصرف النظر عن مباشرته وخطابيته، مفعم بعبارات تقدمية بالنسبة لزمن إنتاج الفيلم، كما في المشهد الذي جمع بين المعلم كتكوت وزوجته، تقول له: “دلوقتِ إبنك بقى بنت”، فيرد عليها: “وماله؟ مش خلقة ربنا؟”، ومثل ما قالته نواعم لفيفي بعد عملية التحويل:”مش عيب الراجل ينقلب ست، ومش عيب الست تنقلب راجل/ العيب إن الراجل يكون أناني ويحرم البنت من التعليم ويخليها تعيش في سجن زي اللي احنا عايشين فيه”.
كما يصعب أن ننسى مشاهد هذا التحول، بدءًا من لقطة تبرز ساق فيفي أثناء ارتداءها جواربها، ومكوثها أمام المرآة للتزين من أجل العرسان التي تجلبهم الخاطبة أم السعد (جمالات زايد) ثم يطفشون، أو غيرتها من نواعم ومشاكساتهما:”- فاكرة لما كنتِ راجل؟ – أنا كنت راجل يا كدابة”.
صحيح أنها ليست المرة الوحيدة التي يقوم فيها اسماعيل ياسين بدور امرأة، لكن التفاوت هذه المرة صنعه الموضوع المغامر، أكاد أراه واحدًا من أصدق الأدوار النسائية، لا أبالغ في شعوري بأنه في هذا الدور كان من أجمل السيدات على الشاشة، لا تثنيني عن ذلك “شلاضيمه” وفمه الكبير الذي يعرف كيف يستخدمه ليجلب الضحك، لأنه في هذا الدور فطِن إلى تفاصيل وأحاسيس الفتاة العادية، الملهوفة على الحب والزواج، بدت درايته بها واضحة في الصورة والهيئة والطلعة والحركة، من حنفي غير المتساهل، إلى فيفي المترفة في الدلال والغنج، دون التوقف عند صوتها أو شكلها الفاحش في “الوحاشة” بدرجة قد يستهجنها الأخرون، أما بالنسبة لي فإن اسماعيل ياسين في هذا الفيلم “عاجباني وحاشته”، كعنوان الأغنية التي غنتها له شادية من ألحان كمال الطويل في فيلم “إوعى تفكر” (1954) إخراج إلهامي حسن، وحاشته طيبة، مطمئنة، راعية لمشاعر إنسانية تبهج القلب وتفرحه، لا تردعها أبدٍا “لخبطة” الشكل، بل تستدعي صوت فايزة أحمد وهي تغني له “يا حلاوتك يا جمالك” من ألحان فريد الأطرش في فيلم “المليونير الفقير”(1959) إخراج حسن الصيفي.
من خلال هذه المفارقة التي تتمحور حولها اللعبة يضحك الجمهور ويشعر صانعو الفيلم أنهم نجحوا، فيرضى الجميع من الخدعة المكشوفة كما ألعاب الأطفال البريئة، هذه الحالة ربما نصادفها كثيرًا هنا، ليس استغراقًا في التواطؤ؛ إنما كنوع من الإشارات الذكية الدالة على النزعة التقدمية المشحونة بها الحكاية، المفارقة الكوميدية هنا تقوم على التناقض بين الشكل الجسماني وتقليد النساء، تنبع من فكرة تحمل هدفًا غير الضحك المجاني، الفكرة تتلخص في نبذ الذكورية وإنصاف المرأة بطرح كوميدي وتقاطعات نابهة، ولا مانع من استخدام الـ”فارس” أو الـ”بارودي” مثل مشهد الشرفة بين فيفي وأبو سريع، محاكاة ساخرة لمسرحية “روميو وجولييت”:
– سلامات يا فيفي
– إن شا الله تسلم يا ابو سريع
– والله احلويت واتدورت وعيونك بقت زي عيون البقر
– يا راجل احتشم
– وبقك
– قصر لسانك، لاحسن أدلق عليك ميه وسخة
– خلخال سليمان
– أبو سريع ما تقوليش كدة، أحسن أنا بنكسف
أبو سريع الصديق القديم تحول إلى الحبيب، يطلب منها ستة جنيهات كي يدفع نفقة زوجته السابقة، ثم تهرب معه وتعود وهي حامل في توائم أربعة، لابد أن تضحك كثيرًا معهما وتصدق فيفي التي تصرخ وهي تلد وتنادي:”يا أم السعد.. يا أم السعد”.
المصدر: اليوم السابع