موقع مصرنا الإخباري:
كنقطة ماء أُسقطت من السماء، شدتها الجاذبية فذابت على الأرض.. تبدو رحلة الإنسان بين الميلاد والموت، بينما الشاعر وحده يقدر على أن يصطنع من نفسه آخر؛ ليراقب هذا السقوط الحتمى، فيرصده ويندهش، ويكتبه ويندهش؛ فنقرأه وندهش.
لأن التصريح بهذه الدينامية فى النظر إلى الحياة يبدو مباشرا وجافا؛ يتخذ الشاعر أقنعة يتخفى وراءها لتعميق فعل الدهشة المرتبط بجوهر الفن، وهذا ما يفعله إبراهيم داود فى ديوانه الأخير “حالة مشى” الصادر عن دار ميريت، الذى فاتنى أن أحتفل به وقت صدوره، وانتهز فرصة الاحتفاء بالشاعر هذه الأيام لأكتب شهادتى عن هذا الديوان البديع، فداود يستبدل بكلمة مشى كلمة حياة؛ ليحتفى بها ويرصد كل مكوناتها متضمنة فى هذا الموت نفسه، معتبرا إياه عرضا من عوارض الحياة، كما يقول فى القصيدة الأخيرة من الديوان “زيارات”: “التخلص من أثاث الليل/ يجعل الكلام رحبا/ وافتقاد الموتى/ يبدو طبيعيا.
ومادام الديوان قد تعمد النظر إلى الحياة باعتبارها “حالة مشى”، فمن الطبيعى أن يتحصن بكل تفاصيل الحالة من زمان مهيمن، ومكان محيط، وإنسان فاعل ومتفاعل. لكن “داود” يضع شروطا للحياة التى يحبها دون أن ينسى ربطها دائما بالحركة والسريان، ففى قصيدة “قبل النوم” يقول: “أحب البيوت التى لها رائحة/ وأكره الشوارع الطويلة/ والأبواب التى تفتح بمفتاحين”، والبيوت التى لها رائحة تعنى أن لها “ناس”، وهذا ما يوضحه فى قصيدة “وظيفة مناسبة”، فيقول مستاءً: “ولا توجد رائحة للناس”، ولذلك يمكننا القول إنه يحب الناس وأفعالهم التى تشير إلى الحياة، أما الشوارع الطويلة التى يكرهها فتأتى هنا بوصفها إشارة إلى السلطة المركزية التى تنظم الشوارع وتباعد فيما بينها، فتفقدها حميميتها ودفأها وأمانها؛ ولهذا يكره أن يُوضع فى هذه الحالة التى تضطره ـ تماشيا معها ـ إلى أن يغلق الباب بمفتاحين.
ليس غريبا إذن أن يضع “داود” قصيدة “قبل النوم” “فاتحة” للديوان، ليملى عليها فلسفته، “ذاكرا” ما يحبه من “بيوت لها رائحة، أنهار الخمرة، كسل، نساء يروَّجن للغناء، سجائر، طريقته فى المشى، خير للناس، تسمية الوحدة شجرة”، ولم ينس أيضا أن “يستعيذ” مما يكره من “شوارع طويلة، أبواب تفتح بمفتاحين، قطط سوداء”. وهذه الحالة من الاحتشاد بتفاصيل الحياة قبل النوم وما يتخللها من ذِكر واستعاذة تذكرنا بما يفعله البسطاء حينما يضطجعون على فراشهم/ فيذكرون ويشكرون ويسبحون ويستعيذون، لأن النوم كما ورد فى الأثر “موتة صغرى”، وبذلك يكون هذا الاحتشاد معادلا شعريا لما يحدث فى الواقع الفطرى البسيط، تحسبا الموت وتحصينا منه، ودفاعا عن الحياة بتفاصيل الحياة فى مواجهة النوم الذى يحتشد هو الآخر بالكوابيس، وبالتالى فالمعركة متكافئة ونتيجتها مؤجلة إلى أجل مسمى.
وتأتى القصيدة الثانية “فوضى” كعرض لأحد الكوابيس التى تداهمه مرارا، فيتجسد أعداؤه فى صورة كلاب يتجاهلهم “كل مرة”، ويستعيد توازنه بالدندنة “بصوت مسموع”، وكأنهم يفزعون ويتركونه بمجرد سماع هذه الدندنة، وحينما ينسى وجودهم وبالتالى ينسى الـ”دندنة”؛ “يبدأون نباحا جماعيا”.
إذن فالغناء والدندنة والموسيقى، هى أهم آليات دفاع الشاعر عن الحياة وعن نفسه، وهذا ما تدل عليه مواضع أخرى فى الديوان، ففى قصيدة “مساءات ثقيلة” يأخذ حبيبته إلى الجبل ليحكى لها “عن الكلاب التى تنبح والغناء مشتعل”، وفى قصيدة العودة يقول:”سيجد بشرا/ خلقت ابتساماتهم له/ وغناء غزيرا/ يحرس هدوءه”، وفى قصيدة الصيف يأتى الغناء بديلا عن انتظاره لحبيبته، ومؤنةً يتقوت منها فى الليالى الطويلة: “عندما كان يحرس القمح/ فى الغرفة التى نزع شباكها/ أيام كان يغنى/ لحبيبة سيتعرف إليها يوما ما”، وفى قصيدة ضجر يقول: “ساقاه القديمتان/ تفهمان فى الموسيقى” وفى “ثرثرة” يحكى عن رجل “اكتشف طرقا غريبة فى الغناء”، أما فى قصيدة “أشياء غائمة”ـ التى ورد فيها اسم الديوان ـ يقول: “البشرية لا تخرج الآن مع أحد/ تجلس فى المكتبات القديمة/ تبحث عن أصابعها/ أو تتجول فى حدائق وهمية/ احتفل بها التاريخ/ وربما تدندن بصوت مسموع”، ليقترح بهذه الـ”دندنة”حلا لخلاص البشرية التى تسير ـ مثله ـ نحو الفناء، وبهذا الحل المقترح ـ الذى ابتكره الشاعر ونفذه مع نفسه ـ من الممكن ألا تفنى البشرية ولا تضيع.
وبعد أن يقترح الغناء كحل شخصى وإنسانى للتغلب على فقد الحياة يلجأ الشاعر فى “مساءات ثقيلة” إلى الأنثى كخلاص ذاتى ليتحرر “الكلام من العتمة” وليحكى لها “عن المآذن واللغة/ عن أخطائى العظيمة”، ويختتم القصيدة بـ “أنا لا أدخن وأنا أركض/ ولا أنام وأنا سعيد/ أنا حزين منذ سنوات”، ليقابل الحزن وعدم النوم فى قصيدة “الأخرى” التى يقابل فيها أنثاه فـ”تفتح زراعيها وتتركه ينام.
ولأن الزمن بما يفرضه من أعباء وقيود وحرمان هو العدو الأكبر للشاعر “يمشى فى الشارع غير مشغول بالسنوات التى تعبر مسرعة”، وفى هذا العبور السريع يفقد أصدقاء له، فيتجاهل فعل الموت ويتحدث مع “رضوان الكاشف” الذى له ابتسامة أطول من عمره، ويتشاكس مع “محمد الماغوط” الذى “اكتشف للغضب مزايا إضافية”، ويسير مع إبراهيم منصور الذى “ترك ضحكته على النار”.
وهذه القصائد التى تشع بالحياة وتحاور الموتى كما لو كانوا أحياء تأتى ضمن فلسفته الموجهة ضد فعل الزمن ومرور السنوات، والأيام التى تمضى وهو يكتب “قصائد ويضيعها”، ولهذا يستكره من أصدقائه الرومانتيكيين الذين “يعرفون أن الغناء طريق طويل يبدو ضيقا/ ومع هذا يصبغون شعورهم وهم يتحدثون عن المستقبل”، وفى هذه الإشارة الذكية يتهكم الشاعر على ابتكار أصدقائه الرومانيكيين هذه الحلول الساذجة للتغلب على مرور الزمن بإيهام أنفسهم بأنهم مازالوا شبانا، بينما هو يقول “أريد أن تشاركنى حالة المشى/ التى تنتابنى كلما تقدمت فى العمر” متجاهلا فعل الزمن المفضى إلى الموت، معتمدا على “حالة مشى”.
بقلم وائل السمري