يكفي الاطلاع على نموذج واحد من النماذج التعليمية التي أصبحت موجودة في المدارس الفنية خلال السنوات العشر الأخيرة، للوقوف على حجم التغييرات الجذرية التي شهدتها المنظومة برمتها، على مستوى المدارس والمناهج الفنية، والتخصصات العصرية التي يتم تطبيقها، ما يمكن اعتباره ثورة تغيير على كل المستويات، بعد أن كان الناس يشتكون من عدم مواءمة التخصصات والمناهج وطرق التدريس لروح العصر. خلال السنوات الأخيرة، تعاملت وزارة التربية والتعليم، مع التعليم الفني بشكل أكثر احترافية، كل شيء تغير، فهناك مناهج عصرية، وتخصصات تخاطب المستقبل، ومدارس على أحدث المستويات الأوروبية، وتقنيات حديثة تضاهي الموجودة في بلدان صناعية كبرى، مثل اليابان وألمانيا. ارتأى الرئيس عبد الفتاح السيسي والحكومة، مع وزارة التعليم، أن تخريج قرابة 600 ألف طالب سنويا من التعليم الفني أكثر من نصفهم لا يعمل في تخصصه الدراسي، واقع لا يمكن استمراره، فلم يعد هناك رفاهية من الوقت لإهدار المال والقدرات البشرية وإطالة طوابير البطالة، فكان التحرك السريع على كل المستويات والاتجاهات، حتى وصل الأمر إلى ما هو عليه الآن. صارت أغلب التخصصات تخاطب سوق العمل، لدرجة أنه أصبح لكل تخصص وظيفة. هكذا ترغب الحكومة، والقيادة السياسية، فلا يمكن أن تكون هناك مشروعات تنموية كبرى واستثمارات ضخة في مجالات نادرة وعصرية، بلا أيد عاملة، أو يتم استيراد العمالة من الخارج، وأبناء البلد يعانون البطالة. صحيح أن ما يبدو للناس، أن هناك تركيزا أكبر على التعليم العام، لكن ذلك نتاج ثقافة مجتمع لا يهتم سوى بالتعليم العام، في حين أن ما يتحقق على الأرض في المدارس الفنية يدعو للفخر، خاصة وأن قيادات التعليم الفني، اعتادت العمل في صمت بعيدا عن الضجيج الإعلامي. وأصبحت مصر تمتلك إحدى أهم المدارس الفنية المعاصرة في المنطقة، من حيث الهدف والفكر والرؤية والناتج البشري. فعندما قررت وزارة التعليم نسف النظرة الدونية للمجتمع، انطلقت من أرضية قائمة على إنشاء مدارس تخاطب اقتصاد كل محافظة، وأيضا الاقتصاد العالمي واحتياجات السوق الدولية. إذا قادت الصدفة لزيارة محافظة دمياط، سوف تجد مدرسة متخصصة في صناعة الأثاث، لأن أكثر سكانها يعملون في مهنة الأثاث وتجارة الأخشاب، وإذا وطأت قدميك إقليم قناة السويس، سوف تجد مدرسة متخصصة في الأعمال البحرية والشحن والتفريغ وخدمات الموانئ بحكم أن المنطقة الواقع فيها المدرسة أغلب اقتصادها مرتبط بهذه الوظائف. هكذا يحدث في أغلب المحافظات، لم تعد العشوائية هي التي تحكم التعليم الفني، بل التخطيط باحترافية ونظرة مستقبلية، بطريقة “ما يطلبه السوق”، و”ما يطلبه المستثمرون”، وما يحتاج إليه الاقتصاد، وما تتطلبه النهضة التي تنشدها الدولة، فهكذا فعلت دول كبرى صارت في طليعة بلدان العالم الأقوى اقتصادا، وبذات الطريقة أصبحت وزارة التعليم تفكر وتطبق. لم تكن مشاركة أصحاب الصناعات والمستثمرين في تحديد التخصصات العلمية والمناهج الدراسية أمرا مباحا من قبل. لكن الحكومة قررت منذ سنوات، التفكير خارج الصندوق وبشكل علمي واحترافي، سهل مهمة “السوق” في أن يتدخل ويحدد ما هو المطلوب من التعليم الفني. أصبح متاحا لأي مستثمر أن يطلب تدريس تخصص بعينه، طالما أن السوق تحتاجه، وهذا في حد ذاته فكر احترافي، فمن كان يتخيل أن التعليم الفني الذي اعتاد عليه الناس بصورته التقليدية النمطية، أصبح ضمن تخصصاته دراسة صناعة الفنون أو التكنولوجيا النووية وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وصناعة المجوهرات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتكنولوجيا التركيبات الكهربائية وتكنولوجيا التشطيبات المعمارية وتكنولوجيا تطبيقات الحاسبات وتكنولوجيا إدارة وتشغيل المطاعم وتكنولوجيا الصيانة الكهربائية وتكنولوجيا الزراعة والري والإنتاج الحيواني والداجني والعديد من المدارس الأخرى المرتبطة بالإلكترونيات والميكانيكا والكهرباء والصناعات المستقبلية. إذا كانت النهضة الاقتصادية في ألمانيا تأسست على أكتاف التعليم الفني إبان الحرب العالمية الثانية، فإن ما يحدث في مصر يبدو نسخة مشابهة، فألمانيا اتخذت من معاهدها الفنية وسيلة لإنقاذ الاقتصاد بعد فترة حرجة، وهكذا تتحرك مصر ممثلة في وزارة التعليم بدعم سياسي غير محدود، وعقلية إدارية أكثر عصرية. صحيح أن الشارع يبدو بعيدا نسبيا عن هذه المستجدات، لكن تغيير نظرته للتعليم الفني بحاجة إلى ثورة توعية، فالناس ما زالت مقتنعة بأن المدارس الفنية ملاذ ضعاف المستوى الذين فاتهم قطار الثانوية العامة، مع العلم أن جميع المدارس التكنولوجية والتخصصات المعاصرة في التعليم الفني، لا يلتحق بها سوى الطالب المتميز والموهوب دراسيا، بل إن الملتحقين بالتعليم الثانوي أصبحوا بالنسبة لأقرانهم في التعليم الفني بشكله الحديث، ضعاف المستوى، لأن مجاميعهم لا تسمح لهم بالقبول في المدارس الفنية. وإن كان المجموع هو المعيار الأول والأخير في الالتحاق بالتعليم الثانوي، فإن المدارس الفنية وحدها تغرد خارج السرب. حيث قضت بشكل نسبي على فكرة المجمع كآلية أحادية لقبول الطالب واجتيازه سنوات الدراسة وتخرجه، فمعايير التقييم صارت أكثر عالمية، واختلفت شكلا ومضمونا، فقد اختفت ثقافة الحفظ والتلقين وجرى استبدالها بالمهارات والجداريات. بالتالي، لن تمنح شهادة التخرج للطالب بناء على درجاته، بل المهارات الفنية والعملية التي اكتسبها خلال فترة دراسته، بحيث يخرج الطالب من المدرسة على الوظيفة مباشرة، ليس ذلك فحسب، بل إنه سيكون خبيرا في المهنة. فالذي التحق بمدرسة صناعة الذهب والمجوهرات، سوف يكتسب مهارات تجعله محترفا ومستثمرا صغيرا حتى قبل أن يتخرج منها. وإذا أراد الخريج استكمال تعليمه الجامعي، فهناك كليات تكنولوجية، وقد يحصل على الدكتوراه. فألمانيا مثلا، ليست فيها كليات هندسة، بل كليات تكنولوجية يكون خريجها رجلا تطبيقيا مهندسا، لا ينحصر علمه في النظريات، بل يصمم الشيء الذي ينتج من خلاله أجزاء السيارة، ثم يصنع السيارة. هذا هو نفس المسار الذي تتحرك فيه وزارة التعليم، بحيث يتم توطين الصناعات الكبرى، وحتى الصغرى لتكون مصر دولة منتجة وليست مستوردة، فمصر ليست أقل من ألمانيا، لا عقلية طلابية ولا مناهج عصرية، ولم يكن ذلك ليتحقق دون أن يكون لدى مصر قيادة سياسية تؤمن بقيمة التعليم الفني ليكون نقطة الانطلاقة الحقيقية للاقتصاد العملاق الذي باتت مصر على مشارف الوصول إليه، في المستقبل القريب.
المصدر بوابة الأهرام