في مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، وجَّهت المملكة السعودية ضربة موجعة للولايات المتَّحدة من خلال الوقوف وراء اتِّخاذ قرار “أوبك بلس” بخفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً، اعتباراً من نوفمبر/ تشرين الثاني. ولم تمضِ سوى فترة وجيزة، حتى انهالت المملكة بضربة أخرى على أميركا في المكان الذي يوجعها أكثر، من خلال استقبال الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال الفترة الممتدّة من 7 إلى 10 ديسمبر/ كانون الأوّل، وتوقيع 46 اتِّفاقية ومذكِّرة تفاهم مع الصين بقيمة 50 مليار دولار، والمبادرة بإقامة ثلاث قمم عربية صينية في الرياض (قمّة سعودية صينية وأخرى خليجية صينية وثالثة عربية صينية) بهدف المواءمة بين رؤية المملكة 2030 ومبادرة الحزام والطريق الصينية وتعزيز التعاون العربي الصيني في مختلف المجالات.
كشفت المقارنة بين الاستقبال السعودي الحافل للرئيس الصيني والاستقبال الباهت للرئيس الأميركي في الرياض، بوضوح، عن تراجع أميركا مقابل تقدُّم الصين في قائمة الحلفاء الموثوق بهم في السعودية التي نفضت غبار الثقة العمياء عنها ومزَّقت وثيقة المقايضة الأساسية، المتمثِّلة بالنفط السعودي مقابل ضمانات أمنية أميركية، التي اعتمدتها لعقود، ووضعت يدها بيد الصين لتشكِّل تحالفاً استراتيجياً جديداً وأكثر شراسة تخشاه أميركا. لقد تبدَّلت الأحوال وتغيَّرت الأوضاع، وأصبحت السعودية ترفض الإملاءات الأميركية، وتأبى الانصياع للشروط والضغوط الصادرة عن البيت الأبيض. فبعد الارتطام بصخور العناد والأنانية الأميركية، قرَّرت المملكة إحداث نقلة نوعية في استراتيجيتها الخارجية والسير بخطى متسارعة نحو مرحلة جديدة يطبعها التعاون مع الصين في شتى الميادين والقطاعات، ولا سيَّما العسكرية.
لقد تشعَّبت الشراكة الاقتصادية بين البلدين، وازداد عدد الاتِّفاقيات المُوقَّعة بينهما في عدّة مجالات، حيث أفاد تقرير الاستثمار لمبادرة الحزام والطريق الصينية للنصف الأوّل من عام 2022 الصادر في يوليو/ تمّوز الماضي عن مركز التمويل والتنمية الأخضر التابع لجامعة “فودان” في شنغهاي بأنّ المملكة السعودية هي المتلقِّي الرئيسي للاستثمارات الصينية في إطار هذه المبادرة بنحو 5.5 مليار دولار، كذلك فإنّها أكبر المستفيدين من استثمارات الغاز بنحو 4.6 مليار دولار؛ وأشار هذا التقرير إلى صعود المملكة إلى المركز الرابع ضمن قائمة أهمّ الشركاء في مجال الطاقة في مبادرة الحزام والطريق بعد باكستان، روسيا، والعراق، ويبقى المستفيد الأكبر من كل هذا هو التنين الصيني الذي يؤمِّن طاقته ويوسِّع نفوذه في المنطقة، وسيتمكَّن من عبور أهمّ الحواجز الاقتصادية العالمية وتأمين النفوذ إلى أهمّ الممرّات المائية العالمية والدخول إلى الأسواق القارية البعيدة بفضل الموانئ السعودية والخليجية والعربية.
علاوة على ذلك، اتَّفق البَلَدان على تعزيز التعاون الثنائي في المجال العسكري، الأمر الذي أدَّى إلى تسارع نبضات الخوف في أميركا التي لم تتقبَّل أصلاً واقع امتلاك السعودية لصواريخ رياح الشرق الصينية، البالستية العابرة للقارات، والمُجهَّزة لحمل الرؤوس النووية؛ حيث تتابع واشنطن من كثب مُضيّ السعودية في برنامجها الدفاعي الذي يطمح إلى تحقيق الاكتفاء العسكري، بداية باستيراد أحدث ما تصنعه الصين من صواريخ، وصولاً إلى توطين صناعتها وإحراز تقدُّم ملموس في خطة الاستنساخ العسكري. بفضل ثرواتها ودورها القيادي ووزنها الجيوسياسي، ليس من الصعب على السعودية أن تقطع الخطوات الأولى المهمّة في الطريق النووي الذي يمثِّل السبيل الأسهل والأكيد نحو الأمن المطلق، حيث تسعى المملكة للحصول على منشآت نووية جاهزة بمساعدة بكين، ولا سيَّما بسبب ضعف تقدُّمها في نشاطات البحث والتطوير الخاصة ببرنامج السلاح النووي، وعدم تكلُّل تمويلها للبرنامج النووي الباكستاني بالنجاح، وتقدُّم البرنامج النووي الإيراني، وكشف أميركا عن وجهها القبيح بصورة لا نظير لها في تاريخ العلاقات السعودية ــ الأميركية.
كان قلق أميركا من زيارة الرئيس الصيني التاريخية للرياض بادياً على وسائل إعلامها بصورة خارقة للمألوف، خشية ممّا دار في الجلسات المغلقة، وتحديداً من كل التفاصيل المتعلِّقة بالتعاون العسكري ومناقشة صناعة أسلحة نووية سعودية. فقد تيقَّنت واشنطن هذه المرّة من أنّ الرياض لا تسعى لجذب انتباهها للحصول على صفقة أفضل منها، ولم تخطِّط لذلك الاستقبال الحافل للرئيس الصيني لمجرَّد التعاون في مجالات النفط والغاز، والتمويل، والاستثمار، والفضاء، واللغة، والثقافة التي سبقت مناقشتها في زيارة مماثلة للرئيس الصيني للمملكة عام 2016، وفي زيارة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان للصين عام 2019، فقد ازدادت المخاوف الأميركية من تمكُّن الرياض من إقناع الصين بمدّ يد العون لها في مجال الابتكار، والبحث والتطوير، والتكنولوجيا الدفاعية، والتقنيات الجديدة لتخصيب اليورانيوم بدرجة نقاء عالية.
من ناحية أخرى، وبعيداً عن سياق الكتابات الأميركية المندِّدة بمبادرة الحزام والطريق والتوسُّع الصيني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والهادفة إلى تصوير التعاون مع أميركا على أنّه الخيار الأمثل، ينبغي للسعودية توخِّي الحذر في تعاونها مع الصين وعدم منحها الثقة العمياء التي قد تُقابل بالخديعة وعدم رفع سقف طموحاتها، لأنّ الصين التي تؤكِّد دوماً حرصها على تعزيز التعاون المشترك المفيد للجانبين هي نفسها الصين التي تبيد مسلمي الإيغور وساندت إثيوبيا في مشروع سدّ النهضة الذي يُعتبر تهديداً وجودياً لمصر، وتشارك في توسيع البنية التحتية للكهرباء في إثيوبيا، وتشجِّع إيران في برنامجها النووي الذي تسعى السعودية لردعه بكل السبل.
بالرغم من عدم فرض شروط لقاءَ الاستثمارات وتقديم القروض ومنح المساعدات، إلا أنّ الصين لا تختلف كثيراً عن الدول الغربية في استراتيجيات اللعب على الحبلين، محاربة الإسلام، والسعي لخدمة مصالحها وحماية أمنها القومي وتوسيع نفوذها دون مراعاة لمصالح الدول العربية المتعاونة معها.
خلاصة القول، بعد انتهاء زيارة الرئيس الصيني، يمكن أن يحين دور زيارة الرئيس الروسي، فكل شيء ممكن في الصراع الجيوسياسي الأميركي – الصيني – الروسي الذي يحاول فيه كل طرف السيطرة على أكبر قدر من الثروات الطبيعية وكسب أكبر قدر من المؤيِّدين من طريق التفاوض، لذلك يجب على التعاون الصيني مع السعودية خاصّة، والدول العربية عامّة، أن يصبّ في مصلحة العرب أوّلاً، كذلك ينبغي للمملكة التركيز على الوحدة العربية حتى لا تلقى ذات مصير الدول الإسلامية التي سعت وراء الحلم النووي.
المصدر: العربي الجديد