أسئلة وجودية بقلم توفيق الناصري

موقع مصرنا الإخباري:

امتزج امتناني لهذه المعرفة القيمة بشعور بالأسى لندرة مثل هذا الكتاب الذي يعرف جيلنا بجوهر محطات تاريخية محورية نستلهم منها.

عندما اندلعت الحرب في أوكرانيا بين روسيا والغرب، قال الدكتور جون ميرشايمر إن روسيا ستنتصر فيها لأنها تعتبرها حربا وجودية، في حين أن الغرب لا يفعل ذلك، وهو في الواقع ليس كذلك. تذكرت هذا التصريح غداة عملية طوفان الأقصى، التي قام بها شعب مهجر تحت الاحتلال ومحاصر براً وبحراً وجواً. لكن رد الفعل الغربي كان كما لو كان حدثاً وجودياً بالنسبة للغرب، إذ هرع زعماء الغرب إلى «إسرائيل» للتعبير عن دعمهم لها والتزامهم بأمنها. وقام المسؤولون الأميركيون بزيارات مكوكية إلى «إسرائيل» وأصدقائها في المنطقة، وتحركت البوارج الأميركية وفتحت قنوات السلاح والمال أمام كيان قيل إنه يمتلك أقوى جيش وأحدث الأسلحة في الشرق الأوسط. لم تكن «إسرائيل» بحاجة إلى كل هذا الدعم في معركة غير متكافئة أصلاً بين جيش مجهز وممول ومدرب، وعدد قليل من مقاتلي المقاومة العاجزين المحاصرين في الأنفاق. فهل كان هذا الخوف الذي عبر عنه الغرب بشكل فوري وعاجل دليلا على شعوره بالخطر الوجودي على نفسه أو على الكيان الذي اعتاد الغرب على دعمه واحتضانه وتبرير كل جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها؟ أم كان ذلك بسبب خوف الغرب من مركزيته في الجغرافيا والتاريخ؟

وإذ يستذكر التحالفات والمنظمات والمؤتمرات لدول الشرق والجنوب التي سبقت طوفان الأقصى، من منظمة البريكس إلى شنغهاي ومجموعة الـ 77، وكل السرديات التي رافقت هذه التحركات، مشددا على ضرورة الوصول إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، والطموح لتبادل السلع بالعملات المحلية وكسر احتكار الدولار للتجارة العالمية، والتقدم التقني الذي حققته الصين في العقد الماضي وتعزيز العلاقات بين الصين وروسيا وإيران، و ومن المؤشرات الأخرى ندرك لماذا سارعت الولايات المتحدة إلى بناء تحالفات جديدة والعمل على حماية تحالفاتها القديمة، حتى لو تطلب ذلك تقديم بعض التنازلات غير المسبوقة في تاريخ هذه العلاقات.

عشت مأساة حرب الإبادة والتطهير العرقي في غزة وفلسطين وكل ما أعقب 7 أكتوبر على مستويين: المستوى الأول: الإنساني والأخلاقي. لقد كانت الأشهر التسعة الماضية صعبة للغاية، وقد شاهدنا بعجز لا نهاية له إبادة الآلاف من الأطفال والأمهات والأطباء والإعلاميين والمنقذين والمتطوعين الذين “خطيئتهم” الوحيدة في الحياة هي أنهم فلسطينيون ولدوا في فلسطين. أرض فلسطين وتصادف أن تكون في فلسطين حيث قررت آلة صهيونية وحشية طاغية، بدعم من الغرب برمته، ذبحهم لأنها اعتبرت وجودهم تهديدا لوجودها. المستوى الثاني سياسي، شعرت فيه أن الغرب الإمبريالي، بقيادة الولايات المتحدة، يدافع عن قيادته للعالم وهيمنته عليه؛ وأنها اعتبرت هيبتها وسلطتها الدولية على المحك، وأن الرسالة التي سعت إلى إيصالها إلى العالم هي تحذير من أي طرف يتصدى لها لأي سبب من الأسباب؛ وأن من كان معها آمن وانتصر، ومن تجرأ على مخالفة عقيدتها ورؤياها فسوف يواجه الفناء والدمار. ومن هذا المنظور الوحشي، في رأيي، تم التعامل مع تحركات الطلاب والأساتذة والإداريين في الجامعات الأمريكية والبريطانية والألمانية لدعم فلسطين، حيث لم يُسمح لأحد، ولا حتى مواطني “الديمقراطيات”، بإظهار ذلك. أي تحدي لهذا النموذج المقدس الذي يزعمون أنه “الديمقراطية وحقوق الإنسان”، أو حتى التشكيك في أنه أفضل نظام على وجه الأرض.

ووسط هذه المشكلات الإنسانية والقومية والمستقبلية المحيرة، والتي عايشتها بعمق وصدق، تلقيت كتاب الدكتور ناصر الرباط: “تقي الدين المقريزي: ضمير التاريخ المصري”. لقد وفّرت لي منذ صفحاته الأولى مساحة من الأمل للمراجعة والتفكير والتبصر فيما يحدث وأسبابه العميقة، بالإضافة إلى لمحات من الأمل في صناعة مستقبل مختلف بشرط توفر الإرادة. أول ما لفت انتباهي في هذا الكتاب، ومن الصفحات الأولى للمقدمة، أنه من تأليف باحث عربي متجذر في أرضه وتاريخه، وماهر في أهم وأحدث مناهج وأساليب البحث والاستقراء. الذي توصل إليه الباحثون في الغرب. وقد شكّل هذا اختلافًا كبيرًا في ذهني ووجداني عن جميع الطلاب المستشرقين الذين قرأت لهم، والذين مهما اجتهدوا في معرفة ما هو، ظل الاستشراق بمثابة فلسفة جديدة.
السمة الواعية لمنتجاتهم.

لقد بعث الدكتور ناصر رباط الحياة في سيرة تقي الدين المقريزي من الناحية الفكرية والروحية مستخدماً أحدث أساليب التوثيق العالمية بلغة عربية راقية تكرر في سردها جمال لغة القرآن، إلى جانب عرض المصادر الاجتماعية والسياسية والفكرية التي بنى عليها المقريزي بحثه بأفضل طريقة ممكنة، أو التي كانت من مؤقتاته المؤثرين أو صادف اقتباسًا منها في كتاباته. لقد نفخ الدكتور ناصر رباط في كتابه الاستثنائي الحياة الحقيقية في جميع جوانب حياة المقريزي وأعماله. وقد فعل ذلك من خلال بحث موسوعي شامل في كل ما كان عليه المقريزي أو حاول أن يكون أو تهرب منه. أخذ الدكتور رباط أبحاثه وتقييماته لجميع المواد قيد المناقشة على محمل الجد واهتمام شديد، مسلحًا بعقل لامع وحكم متوازن للغاية. شعرت من خلال قراءتي لهذا الكتاب وكأنني تعرفت على كل من تعامل معه المقريزي وكل من درسه، لدرجة أنني شعرت أنه أصبح صديقي؛ شخص يمكنني مناقشة شؤون اليوم الحالي معه والاستماع بعناية إلى مدخلاته حول القرن الحادي والعشرين.

وامتزج امتناني لهذه المعرفة القيمة بشعور بالأسى لندرة مثل هذا الكتاب الذي يعرف جيلنا بجوهر محطات تاريخية محورية نستمد منها الإلهام لمقاومة أي سوء تعامل مع شؤوننا الراهنة. كما أننا نستمد الشجاعة من كل من المقريزي والدكتور ناصر الرباط باعتبارهما منارات على طريق الحق مهما كان الزمن سيئا. أليس لافتاً أن هذه السيرة الشاملة والعميقة والموسوعية العادلة لمؤرخ عظيم عمل على تخليد الوطن الذي أحب وقاوم الخطأ والظلم بأسلوبه الحكيم وصبره ودماثةه ومثابرته رغم أحلك الأيام؟ هل يصبح عونًا لي ولأمثالي في العيش في الأوقات الصعبة بعد ستة قرون من وفاته؟ أليس هذا الإبداع بحد ذاته في بحث وكتابة متوازنة ومتطورة جمعت بين عمق وشمولية المحتوى وأحدث القواعد العلمية لكتابة السيرة الذاتية؟

لكن هذه التجربة أثارت أيضاً أسئلة مزعجة بالنسبة لي: هل مشكلتنا نحن العرب تتمثل في تغلغل المركزية الغربية في ثنايا تاريخنا، بما في ذلك تاريخ النهضة، وتشبع طلاب الاستشراق بفكرهم؟ إلى درجة أننا لم نعد قادرين على صياغة تاريخنا الفكري باستقلالية تامة، كما فعل الدكتور ناصر الرباط في هذا الكتاب؟ فهل المركزية السياسية والعسكرية الغربية التي تؤجج حرب الإبادة ضد العرب أمام أعين العالم أجمع، لا تشكل إلا وجها من وجوه المركزية الغربية التي شكلت وعينا ووجداننا من خلال الكتاب العرب الذين قلدوا شخصية الاستشراق وافتتنوا به لذلك؟ أنه أصبح عنصرا لاواعيا في فكرهم أنهم أعادوا إنتاجه بطرق مختلفة في الأدب الذي أسميناه أدب التنوير والنهضة؟ هل ما زلنا في القرن الحادي والعشرين ندفع ثمن عصر الاستبداد الذي أحرق كتب ابن رشد (ابن رشد) وابن سينا ​​وابن خلدون، ليأخذ الغرب زمام المبادرة في دراسة مؤلفاتهم، أحيانا؟ دون أن يتقنوا لغتهم العربية، وعادوا إلينا بمنتجات فيها نظرة دونية لتاريخنا وديننا ومعتقداتنا؟

كنت أتساءل عن مكانة العرب في التاريخ الحديث، لكني الآن أتساءل عن طبيعة التاريخ والفكر العربي الذي نعلمه للأجيال، وهل نحتاج إلى إعادة النظر فيهما بعيدا عن الاستشراق وإعادة تأهيل الفكر والهوية العربية على أرض الواقع؟ الأسس التي وضعها القدماء قبل أن يرفعها المستشرقون ويعيدون إلينا بضائعنا محملة بنظرتهم الناقصة والدونية إلينا.

الولايات المتحدة
قطاع غزة
فلسطين المحتلة
الهيمنة الغربية
الحرب على غزة
عملية طوفان الأقصى
فلسطين
الغرب
إسرائيل
الإبادة الجماعية في غزة
الاحتلال الإسرائيلي
الحرب الإسرائيلية على غزة
غزة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر العناوين

عناوين أخرى